{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
ينهى الله المؤمنين ، أو اليهود ، بأن يسألوا رسولهم { كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } والمراد بذلك ، أسئلة التعنت والاعتراض ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } فهذه ونحوها ، هي المنهي عنها .
وأما سؤال الاسترشاد والتعلم ، فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ويقررهم{[97]} عليه ، كما في قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } ونحو ذلك .
ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة ، قد تصل بصاحبها إلى الكفر ، قال : { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ولعل هذا كان بسبب انخداع بعضهم بحملة اليهود التضليلية ؛ وبلبلة أفكارهم بحججهم الخادعة ؛ وإقدامهم على توجيه أسئلة للرسول [ ص ] لا تتفق مع الثقة واليقين . يدل على هذا ما جاء في الآية التالية من صريح التحذير والاستنكار :
( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) . . فهو استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف ، على نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة . .
وهو تحذير لهم من نهاية هذا الطريق ، وهي الضلال ، واستبدال الكفر بالإيمان ، وهي النهاية التي صار إليها بنو إسرائيل . كما أنها هي النهاية التي يتمنى اليهود لو قادوا إليها المسلمين !
{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أم معادلة للهمزة في { ألم تعلم } أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد ، أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام . أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه . قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء . وقيل : هي المشركين لما قالوا { لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } ومن ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها ، فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ، ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . وقرئ " يبدل " من أبدل .
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } ( 108 )
وقوله تعالى : { أم تريدون } : قالت فرقة : { أم } رد على الاستفهام الأول ، فهي معادلته( {[1101]} ) .
وقالت فرقة { أم } استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون ، وهذا موجود في كلام العرب .
وقالت فرقة : { أم } هنا بمعنى بل وألف الاستفهام ، قال مكي وغيره : وهذا يضعف لأن «أم » لا تقع بمعنى بل إلا اعترض المتكلم شك فيما يورده .
قال القاضي أبو محمد : وليس كما قال مكي رحمه الله ، لأن «بل » قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه ، وإنا يلزم ما قال على أحد معنيي «بل » وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى ، ونعم ما قال سيبويه : بل هي لترك كلام وأخذ في غيره . ( {[1102]} )
وقال أبو العالية( {[1103]} ) : إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل . وتلا : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً }( {[1104]} ) [ النساء : 110 ] .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم . ( {[1105]} )
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك ، وقيل : إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة ، وقيل : سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً ، وقال مجاهد : سألوه أن يرد الصفا ذهباً( {[1106]} ) ، فقال لهم : خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل( {[1107]} ) ، فأبوا ونكصوا .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم ، و { كما سئلَ موسى } عليه السلام هو أن يرى الله جهرة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سِيل » بكسر السين وياء وهي لغة ، يقال : سلت أسال( {[1108]} ) ، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء ، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين ، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل ، وقال أبو العالية : «الكفر هنا الشدة ، والإيمان الرخاء » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، إلا أن يريدهما مستعارتين ، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم ، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به ، و { ضل } أخطأ الطريق ، و «السواء » من كل شيء الوسط والمعظم ، ومنه قوله تعالى { في سواء الجحيم }( {[1109]} ) [ الصافات : 55 ] .
وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سوائي ، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره
يا ويح أنصار النبيِّ ورهطِهِ . . . بَعْدَ المغيَّبِ في سواءِ الملحدِ
وقال أبو عبيد : هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه ، و { السبيل } عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده ، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها .