فالله تعالى ، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير ، فانقسموا -بحسب الاستجابة له- إلى قسمين : مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
أي : يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته ، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك ، فإذا استجابوا له ، شكر الله لهم ، وهو الغفور الشكور .
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل ، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم .
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله ، ف { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة .
وقوله : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال السدي : يعني يستجيب لهم . وكذا قال ابن جرير : معناه يستجيب الدعاء لهم{[25871]} [ لأنفسهم ] {[25872]} ولأصحابهم وإخوانهم . وحكاه عن بعض النحاة ، وأنه جعلها كقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] .
ثم روى هو وابن أبي حاتم ، من حديث الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن سلمة بن سبرة قال : خطبنا معاذ بالشام فقال : أنتم المؤمنون ، وأنتم أهل الجنة . والله إني أرجو أن يدخل الله من تسبون من فارس والروم الجنة ، وذلك بأن أحدكم إذا عمل له - يعني أحدُهم عملا - قال : أحسنت رحمك {[25873]} الله ، أحسنت بارك الله فيك ، ثم قرأ : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل{[25874]} [ مثل ]{[25875]} قوله : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا } كقوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } [ الزمر : 18 ] أي : هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه ، كقوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } [ الأنعام : 36 ] والمعنى الأول أظهر ؛ لقوله {[25876]} تعالى : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا بقية ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق عن عبد الله{[25877]} قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال : " الشفاعة لمن وجبت له النار ، ممن صنع إليهم معروفا {[25878]} في الدنيا " {[25879]} .
وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : يشفعون في إخوانهم ، { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال : يشفعون في إخوان إخوانهم .
وقوله : { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ، ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم .
وقوله تعالى : { ويستجيب } قال الزجاج وغيره معناه : يجيب ، والعرب تقول : أجاب واستجاب بمعنى ومنه قول الشاعر [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ]
وداع دعا يا من يجيب الندا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب{[10140]}
و : { الذين } على هذاا لقول مفعول ب { يستجيب } ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه{[10141]} ونحوه عن ابن عباس ، وقالت فرقة المعنى : ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة .
ودل قوله : { ويزيدهم من فضله } على أن المعنى فيجيبهم ، وحملت هذه الفرقة استجاب على المعهود من باب استفعل ، أي طلب الشيء . و : { الذين } على هذا القول فاعل ب { يستجيب } . وقالت فرقة : المعنى ويجيب المؤمنون ربهم ، ف { الذين } : فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته . والزيادة من فضله : هي تضعيف الحسنات ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «هي قبول الشفعات في المذنبين والرضوان »{[10142]} .
والاستجابة : مبالغة في الإجابة ، وخُصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوةِ أو الأمر . وظاهر النظم أن فاعل { يستجيب } ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير { وهو الذي يقبل التوبة } وأن { الذين آمنوا } مفعول { يستجيب } وأن الجملة معطوفة على جملة { يقبل التوبة } .
والغالب في الاستعمال أن يقال : استجاب له ، كقوله : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وقد يحذفون اللام فيعدُّونه بنفسه ، كقول كعب بن سعد :
ودَاعٍ دَعا يَا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذَاك مجيب
والمعنى : أن الله يستجيب لهم ما يرجونه منه من ثواب ، وما يدْعُونه .
ويجوز أن يكون { الذين آمنوا } فعل { يستجيب } أي يستجيبون لله فيطيعونه وتكون جملة { ويستجيب } عطفاً على مجموع جملة { وهو الذي يقبل التوبة } ، أي ذلك شأنه وهذا شأن عباده المؤمنين .
ومعنى { ويزيدهم من فضله } على الوجهين أنه يعطيهم ما أمَّلوا من دعائهم وعملهم وأعظم مما أملوا حين استجابوا له ولرسوله ، وأنه يعطيهم من الثواب أكثر مما عملوا من الصالحات إذ جعل لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما في الحديث ، وأنه يعطيهم من خير الدنيا ما لم يسألوه إياه كل ذلك لأنه لطيف بهم ومدبر لمصالحهم .
ولما كانت الاستجابة والزيادة كرامةً للمؤمنين ، أظهر اسم { الذين آمنوا } وجيء به مَوْصُولاً للدلالة على أن الإيمان هو وجه الاستجابة لهم والزيادة لهم .
وجملة { والكافرون لهم عذاب شديد } اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله : { ترى الظالمين مُشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } [ الشورى : 22 ] توكيداً للوعيد وتحذيراً من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم .