{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين : { رَاعِنَا } أي : راع أحوالنا ، فيقصدون بها معنى صحيحا ، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا ، فانتهزوا الفرصة ، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك ، ويقصدون المعنى الفاسد ، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة ، سدا لهذا الباب ، ففيه النهي عن الجائز ، إذا كان وسيلة إلى محرم ، وفيه الأدب ، واستعمال الألفاظ ، التي لا تحتمل إلا الحسن ، وعدم الفحش ، وترك الألفاظ القبيحة ، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق ، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال : { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور ، { وَاسْمَعُوا } لم يذكر المسموع ، ليعم ما أمر باستماعه ، فيدخل فيه سماع القرآن ، وسماع السنة التي هي الحكمة ، لفظا ومعنى واستجابة ، ففيه الأدب والطاعة .
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا . وقولوا : انظرنا ، واسمعوا ، وللكافرين عذاب أليم . ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل . ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، إن الله بما تعملون بصير . .
يتجه الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى ( الذين آمنوا )يناديهم بالصفة التي تميزهم ، والتي تربطهم بربهم ونبيهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية .
وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي [ ص ] : ( راعنا )- من الرعاية والنظر - وأن يقولوا بدلا منها مرادفها في اللغة العربية : ( أنظرنا ) . . ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة ، ويحذرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا : راعنا وقولوا انظرنا . واسمعوا . وللكافرين عذاب أليم ) .
وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة( راعنا ) . . أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ ، وهم يوجهونه للنبي [ ص ] حتى يؤدي معنى آخر مشتقا من الرعونة . فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي [ ص ] مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء ! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه !
واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ، وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين .
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا يقولون : راعنا . يورون{[2474]} بالرعونة ، كما قال تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 46 ] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم ، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون : السامُ عليكم . والسام هو : الموت . ولهذا{[2475]} أمرنا أن نرد عليهم ب " وعليكم " . وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .
والغرض : أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا . فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي مُنيب الجُرَشي ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بين يدي الساعة بالسيف ، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له . وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
وروى أبو داود ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به{[2476]} " من تشبه بقوم فهو منهم " ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد ، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ، ولباسهم وأعيادهم ، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نُقَرر عليها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مِسْعَر ، عن مَعْن وعَوْن - أو أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود ، فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سَمْعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه{[2477]} .
وقال الأعمش ، عن خيثمة ، قال : ما تقرؤون في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فإنه في التوراة : " يا أيها المساكين " .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { راعنا } أي : أرعنا {[2478]} سمعك .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك . وإنما { راعنا } كقولك : عاطنا .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ، وأبي مالك ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة ، نحو ذلك .
وقال مجاهد : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } لا تقولوا خلافا . وفي رواية : لا تقولوا : اسمع منا ونسمع منك .
وقال عطاء : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها .
وقال الحسن : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال : الراعن من القول السخري منه . نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه من الإسلام . وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله .
وقال أبو صخر : { لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ، فيقول : أرعنا{[2479]} سمعك . فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له{[2480]} .
وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع ، يدعى رفاعة بن زيد{[2481]} يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع . وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير مسمع : غَيْرَ صاغر . وهي كالتي{[2482]} في سورة النساء . فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا : راعنا .
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بنحو من هذا .
قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم : راعنا ؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي قال : " لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا : الحَبَلَة . ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي " . وما أشبه ذلك .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }( 104 )
وقرأ جمهور الناس «راعِنا » من المراعاة بمعنى فاعلنا( {[1048]} ) أي أرعنا نرعك ، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه ، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره ، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة ، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل ، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم : وقالت طائفة : هي لغة كانت الأنصار تقولها ، فقالها رفاعة( {[1049]} ) بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول : اسمع غير مسمع ، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير ، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة . فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة ، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل ، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً ؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً( {[1050]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعناً » بالتنوين( {[1051]} ) ، وهذه من معنى الجهل ، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة( {[1052]} ) لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور ، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا » دون تنوين ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ، وهي شاذة ، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة ، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة .
و { انظُرنا } مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا ، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر ، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال( {[1053]} ) ، وهذا هو معنى { راعنا } ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود ، وقرأ الأعمش وغيره «أنظِرنا » بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك .
ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر ، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة( {[1054]} ) ، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً ، وهو المؤلم ، { واسمعوا } معطوف على { قولوا } لا على معمولها .