{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ }
يخبر تعالى عن أهل الكتب{[271]} من أهل القرآن والتوراة والإنجيل ، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد ، وأصل واحد ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [ والعمل الصالح ]{[272]} فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فله النجاة ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها . وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة .
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن " الدين " الذي يقبله الله من الناس ، أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ؛ والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ :
( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئون ، والنصارى . . من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ ص ] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة ، ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام .
والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة ، فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع ، وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ؛ ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .
وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من " المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة ، أن محمدا [ ص ] هو خاتم النبيين ، وأنه أرسل إلى البشر كافة ، وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به ، وفق ما جاء به ؛ في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا ، ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا ، فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين ، ولا يدخل في مضمون قوله تعالى : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
وهذه هي الحقيقة الأساسية " المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ؛ أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ؛ من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على " دين " يرضاه الله ؛ ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !
إنما الله هو الولي ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وهم : المسلمون { وَالَّذِينَ هَادُوا } وهم : حملة التوراة { وَالصَّابِئُونَ } - لما طال الفصل حسن العطف بالرفع . والصابئون : طائفة بين{[10125]} النصارى والمجوس ، ليس لهم دين . قاله مجاهد ، وعنه : بين{[10126]} اليهود والمجوس . وقال سعيد بن جبير : بين{[10127]} اليهود والنصارى ، وعن الحسن [ والحكم ]{[10128]} إنهم كالمجوس . وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى غير القبلة ، ويقرؤون الزبور . وقال وَهْب بن مُنَبّه : هم قوم يعرفون الله وحده ، وليست لهم شريعة يعملون بها ، ولم يحدثوا كفرًا .
وقال ابن وَهْب : أخبرني ابن أبي الزَّنَاد ، عن أبيه قال : الصائبون : قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات . وقيل غير ذلك .
وأما النصارى فمعروفون ، وهم حملة الإنجيل .
والمقصود : أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم{[10129]} الآخر ، وهو المعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحًا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه{[10130]} ولا على ما تركوا وراء ظهورهم { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته . {[10131]}
{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } سبق تفسيره في سورة " البقرة " والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله :
فإني وقيار بها لغريب *** . . .
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، كان غيرهم أولى بذلك . ويجوز أن يكون والنصارى معطوفا عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر ، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معا فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ، ولأنه يوجب كون الصابئين هودا وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء . وقيل { الصابئون } منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو . { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } في محل الرفع بالابتداء وخبره . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف ، أي من آمن منهم ، أو النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه . وقرئ و " الصابئين " وهو الظاهر و " الصابيون " بقلب الهمزة ياء و " الصابون " بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفا ، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعا ولا عقلا .
موقع هذه الآية دقيق ، ومعناها أدقّ ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين . فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة ( 62 ) ، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه . ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه . وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله : { والصابون } بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم { إنّ } في ظاهر الكلام .
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه مَعْقَد معناها :
فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله : { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل } [ المائدة : 68 ] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام : هل هم على شيء أو ليسوا على شيء ، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ ؛ فوقع قوله : { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر . والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون . وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى ، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهْتمامٍ بهم سنبيّنه قريباً .
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة { ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا } [ المائدة : 65 ] الخ ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد ، ووصلاً لربط الكلام ، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون ، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم .
فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة ، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم ( كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : « إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه » فكان المسلمون ، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح ، أوّلين في هذا الفضل .
وأمّا معنى الآية فافتتاحها بحرف { إنّ } هنا للاهتمام بالخبر لعروّ المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد .
وقد تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله : { من آمن بالله واليوم الآخر } ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون ، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر ؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب : فقيل : أريد بالّذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، وهم المنافقون ، وقيل : أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد . وقيل : غير ذلك .
والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون ، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى ، فهو راجع إلى علم الله ، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً .
فالّذي أراه أن يجعل خبر ( إنّ ) محذوفاً . وحذفُ خبر ( إنّ ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل ، كما ذكر سيبويه في « كتابه » . وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله : { فلا خوف عليهم } إلخ . ويكون قوله : { والّذين هادوا } عطفَ جملة على جملة ، فيجعل { الّذين هادوا } مبتدأ ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه ، وهو { والصابُون } . وهذا أولى من جعل { والصابون } مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له ، أي والصابون كذلك ، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك ، ويكون قوله : { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً ، وتكون ( من ) موصولة ، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً ، أي من آمن منهم ، وجملة { فلا خوف عليهم ( 1 ) } خبراً عن ( مَن ) الموصولة ، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط . وذلك كثير في الكلام ، كقوله تعالى : { إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم } [ البروج : 10 ] الآية ، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن ( مَن ) الموصولة وليس خبر إنّ على عكس قول ضابي بن الحارث :
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه *** فإنّي وقبّار بها لغريب
فإنّ وجود لام الابتداء في قوله : « لغريب » عيَّن أنّه خبر ( إنّ ) وتقديرَ خبر عن قبّار ، فلا ينظّر به قوله تعالى : { والصابون } .
ومعنى { من آمن بالله واليوم الآخر } من آمن ودَام ، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث ؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة . ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله ، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه ، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب . وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة ( 62 ) .
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم : { نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه } [ المائدة : 18 ] وقولِهم { لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] ، وقول النّصارى : إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل ، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر ، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها .
وجمهور المفسّرين جعلوا قوله { والصابون } مبتدأ وجعلوه مقدّماً من وتأخير وقدّروا له خبراً محذوفاً لدلالة خبر ( إنّ ) عليه ، وأنّ أصل النظم : أنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى لهم أجْرهم إلخ ، والصابون كذلك ، جعلوه كقول ضابي بن الحارث :
وبعض المفسّرين قدّروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة . والّذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النّظم وأليق بمعنى هذه الآية .
وبعدُ فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل ، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه ، وكُتب في المصاحف ، وهم عَرب خلّص ، فكان لنا أصلاً نتعرّف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالاً غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان ، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف ( إنّ ) وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات ، فيقدّرَ السامع خبراً يقدّره بحسب سياق الكلام .
ومن ذلك قوله تعالى : { أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه } [ التوبة : 3 ] ، أي ورسوله كذلك ، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر ، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام ، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب ، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً ، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك . لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي ( إنّ ) خبرها ، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً ، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه ، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز ، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين ، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم . والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود . فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم ، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع ، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار ، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم ( إنّ ) فلم يكن عطفه عطف جملة . وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّماً على النّصارى ومنصوباً ، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم . ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله : { وعمل صالحاً } ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن ، به ، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم ، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن ، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى : { وما أدراك ما العقبة إلى قوله ثم كان من الّذين آمنوا } [ البلد : 12 17 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين آمنوا}: الذين صدقوا، {والذين هادوا}، يعني اليهود، {والصابئون}، هم قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هذه الفرق الثلاث، وزعموا أنهم على دين نوح، عليه السلام، وأخطأوا، لأن دين نوح، عليه السلام، كان على دين الإسلام، {والنصارى}، إنما سموا نصارى، لأنهم ابتدعوا هذا الدين بقرية تسمى ناصرة، قال الله عز وجل: {من آمن} من هؤلاء {بالله واليوم الآخر وعمل صالحا}، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فله الجنة، ومن بقي منهم إلى أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان له إلا أن يصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن صدق بالله عز وجل أنه واحد لا شريك له، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {فلا خوف عليهم} من العذاب، {ولا هم يحزنون} من الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام، "والّذين هَادُوا": وهم اليهود، "والصابئون": وقد بينا أمرهم. "والنّصَارى مَنْ آمَنَ باللّه واليَوْمِ الاَخِرِ "فصدّق بالبعث بعد الممات، وعمل من العمل صالحا لمعاده، "فلا خَوْفٌ عليهم" فيما قدّموا عليه من أهوال القيامة، "ولا هُمْ يَحْزَنُونَ" على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين} لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم، وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين.
المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية، والقوة العملية، أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق، وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير، وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات. وهو الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر؛ فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال {لا خوف عليهم} بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة {ولا هم يحزنون} بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن بسبب طيبات الدنيا.
فإن قيل: كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوما عن أهوال القيامة؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح، ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي، والثاني: أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به.
المسألة الخامسة: أنه تعالى قال في أول الآية {إن الذين ءامنوا} ثم قال في آخر الآية {من ءامن بالله} وفي هذا التكرير فائدتان، الأولى: أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن.
الفائدة الثانية: أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان، والإيمان يدخل تحته أقسام، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان، وقد ذكرنا وجوها كثيرة في قوله {يا أيها الذين آمنوا} وكلها صالحة لهذا الموضع..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما كان الانتساب إلى الدين لا يفيد في الآخرة إلا بإقامة كتاب الدين، بين الله تعالى بعد تلك الحجة أصول الدين المقصودة من إقامة الكتب الإلهية كلها التي يترتب عليها الجزاء والثواب فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والصابئون وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
مناسبة وضع هذه الآية هنا لما قبلها وما بعدها؛ بيان أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله وما كلفهم الله إياه، ولا وسائله و مقاصده، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها، ولا هم تركوا ما عندهم منها ظواهرها؛ ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر، على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون؛ اللهم إلا قليلا منهم كان مخبوءا في طيات الزمان، أو شعاف الجبال وزوايا البلدان، كانوا يعذبون على توحيد الله، ويرمون بالزندقة أو الهرطقة لرفضهم تقاليد الكنائس. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة فيراجع تفسيرها المفصل، في جزء التفسير الأول..
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن أهل الكتب من أهل القرآن والتوراة والإنجيل، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد، وأصل واحد، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [والعمل الصالح] فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن "الدين "الذي يقبله الله من الناس، أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير؛ والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ: (إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئون، والنصارى.. من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. والذين آمنوا هم المسلمون. والذين هادوا هم اليهود. والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة، ومنهم من العرب أفراد معدودون. والنصارى هم أتباع المسيح -عليه السلام. والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة، فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا- ومفهوم ضمنا في هذا الموضع، وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير -فقد نجوا: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك؛ ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات.. فالمهم هو العنوان الأخير.. وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من "المعلوم من الدين بالضرورة". فمن بديهيات هذه العقيدة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأنه أرسل إلى البشر كافة، وأن الناس جميعا- على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم -مدعوون إلى الإيمان بما جاء به، وفق ما جاء به؛ في عمومه وفي تفصيلاته. وأن من لا يؤمن به رسولا، ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا، فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين، ولا يدخل في مضمون قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة (62)، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه. ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله: {والصابون} بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم {إنّ} في ظاهر الكلام.
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه مَعْقَد معناها:
فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله: {قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل} [المائدة: 68] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام: هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ؛ فوقع قوله: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا} الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهْتمامٍ بهم سنبيّنه قريباً.
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة {ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا} [المائدة: 65] الخ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.
فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: « إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه» فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل.
وأمّا معنى الآية فافتتاحها بحرف {إنّ} هنا للاهتمام بالخبر لعروّ المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد.
وقد تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: {من آمن بالله واليوم الآخر}، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب: فقيل: أريد بالّذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وهم المنافقون، وقيل: أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد. وقيل: غير ذلك.
والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً.
فالّذي أراه أن يجعل خبر (إنّ) محذوفاً. وحذفُ خبر (إنّ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في « كتابه». وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله: {فلا خوف عليهم} إلخ. ويكون قوله: {والّذين هادوا} عطفَ جملة على جملة، فيجعل {الّذين هادوا} مبتدأ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه، وهو {والصابُون}. وهذا أولى من جعل {والصابون} مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك، ويكون قوله: {من آمن بالله} مبتدأ ثانياً، وتكون (من) موصولة، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً، أي من آمن منهم، وجملة {فلا خوف عليهم (1)} خبراً عن (مَن) الموصولة، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم} [البروج: 10] الآية...
ومعنى {من آمن بالله واليوم الآخر} من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب. وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة (62).
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: {نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه} [المائدة: 18] وقولِهم {لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة} [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التّالية تعود لتقرر مرّة أُخرى هذه الحقيقة، وتؤكّد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون استثناء، مسلمين كانوا أم يهوداً أم صابئين أم مسيحيين، لا ينجون ولا يأمنون الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إِلاّ إِذا آمنوا بالله وبيوم الحساب وعملوا صالحاً: (إِنّ الذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
هذه الآية، في الحقيقة ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة، ويفضلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض، ويتقبلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي، فتقول الآية إِن طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.
وكما أشرنا في تفسير الآية (62) من سورة البقرة، التي تقترب في مضمونها من مضمون هذه الآية سعى بعضهم بجد ليثبت أنّ هذه الآية تعتبر دليلا على «السلام العام» وعلى أنّ أتباع جميع الأديان ناجون، وأن يتجاهل فلسفة نزول الكتب السماوية بالتتابع الذي يدل على تقدم الإِنسان في مسيرته التكاملية التدريجية.
ولكن كما قلنا تضع الآية حدّاً فاصلا بقولها (وعمل صالحاً) لكل قول، وتشخص الحقيقة، بخصوص تباين الأديان، فتوجب العمل بآخر شريعة إِلهية، لأنّ العمل بقوانين منسوخة ليس من العمل الصالح، بل العمل الصالح هو العمل بالشرائع الموجودة وبآخرها (لمزيد من الشرح والتوضيح بهذا الشأن انظر المجلد الأوّل ص 217.
ثمّ إِنّ هناك احتمالا مقبولا في تفسير عبارة (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) وهو إِنّها تختص باليهود والنصارى والصابئين، لأنّ (الذين آمنوا) في البداية لا تحتاج إلى مثل هذا القيد، وعليه، فإن معنى الآية يصبح هكذا:
إِنّ المؤمنين من المسلمين وكذلك اليهود والنصارى والصابئين، بشرط أن يؤمنوا وأن يتقبلوا الإِسلام ويعملوا صالحاً سيكونون جميعاً من الناجين وإِن ماضيهم الديني لن يكون له أي أثر في هذا الجانب، وإِن الطريق مفتوح للجميع (تأمل بدقّة).