{ 158 } { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }
يقول تعالى : هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم ، { إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ } مقدمات العذاب ، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم { الْمَلَائِكَةِ } لقبض أرواحهم ، فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال ، لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال . { أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ } لفصل القضاء بين العباد ، ومجازاة المحسنين والمسيئين . { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الدالة على قرب الساعة .
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الخارقة للعادة ، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت ، وأن القيامة قد اقتربت . { لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } أي : إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن ، ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك ، بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك ، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات .
والحكمة في هذا ظاهرة ، فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب ، وكان اختيارا من العبد ، فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة ، ولم يبق للإيمان فائدة ، لأنه يشبه الإيمان الضروري ، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما ، ممن إذا رأى الموت ، أقلع عما هو فيه كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }
وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد ببعض آيات الله ، طلوع الشمس من مغربها ، وأن الناس إذا رأوها ، آمنوا ، فلم ينفعهم إيمانهم ، ويُغلق حينئذ بابُ التوبة .
ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم ، منتظرا ، وهم ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قوارع الدهر ومصائب الأمور ، قال : { قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } فستعلمون أينا أحق بالأمن .
وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى ، كالاستواء والنزول ، والإتيان لله تبارك وتعالى ، من غير تشبيه له بصفات المخلوقين .
وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير ، وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها . وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته ، أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا ، كما تقدم .
وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه . فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا كان مع العبد الإيمان . فإذا خلا القلب من الإيمان لم ينفعه شيء من ذلك .
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى ، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب . . وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد . وهو يتكرر هنا ، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله : فقد جاء في أول السورة : ( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون ) . . وجاء هنا في آخرها :
( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ، أو يأتي بعض آيات ربك ؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : قل : انتظروا إنا منتظرون ) . .
إنه التهديد الواضح الحاسم . فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتماً إذا جاءت الخارقة ثم لم يؤمن بها المكذبون . . والله سبحانه يقول لهم : إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده . . وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . . لنفس لم تؤمن من قبل ، ولم تكسب عملاً صالحاً في إيمانها . فالعمل الصالح هو دائماً قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام .
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى : ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) هو أشراط الساعة وعلاماتها ، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . وعدوا من ذلك أشراطاً بعينها . . ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة أولى . فقد سبق مثله في أول السورة ، وهو قوله تعالى : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . . والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية ، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة ، وأن هذا ملحوظ ومقصود ، لتقرير حقيقة بعينها . فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية . وهو كاف في التأويل ، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول . .
يقول تعالى متوعدًا للكافرين به ، والمخالفين رسله والمكذبين بآياته ، والصادين عن سبيله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وذلك كائن يوم القيامة . { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ] }{[11422]} الآية ، وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها كما قال البخاري في تفسير هذه الآية :
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا عمارة ، حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مَغْرِبها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها . فذلك حين { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ }
حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها " ثم قرأ هذه الآية .
هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين{[11423]} ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي ، من طرق ، عن عمارة بن القَعْقَاع بن شُبْرُمَة ، عن أبي زرعة بن{[11424]} عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، به{[11425]} .
وأما الطريق الثاني : فرواه عن إسحاق ، غير منسوب ، فقيل : هو ابن منصور الكوسج ، وقيل : إسحاق بن نصر{[11426]} والله أعلم .
وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع النيسابوري ، كلاهما عن عبد الرزاق ، به{[11427]} .
وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة ، كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء ابن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به{[11428]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إذا خرجن { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض " .
ورواه أحمد ، عن وَكِيع ، عن فُضَيْل بن غَزْوان ، عن أبي حازم سلمان ، عن أبي هريرة به ، وعنده : " والدخان " .
ورواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، عن وكيع{[11429]} .
ورواه هو أيضا والترمذي ، من غير وجه ، عن فضيل بن غزوان ، به{[11430]} .
ورواه إسحاق بن عبد الله الفَروي ، عن مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة . ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه ، لضعف الفَروي ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت آمن الناس كلهم ، وذلك حين { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } الآية{[11431]} .
ورواه ابن لهيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، به . ورواه وكيع ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، به .
أخرج هذه الطرق كلَّها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سِيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها ، قُبِل منه " .
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة{[11432]} .
حديث آخر عن أبي ذر الغفاري : في الصحيحين وغيرهما ، من طرق ، عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر جُنْدُب بن جُنَادة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَدْري أين تذهب الشمس إذا غربت ؟ " . قلت : لا أدري ، قال : " إنها تنتهي دون العرش ، ثم تخر ساجدة ، ثم تقوم حتى يقال لها : ارجعي{[11433]} فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت ، وذلك حين : { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ }{[11434]} .
حديث آخر عن حُذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا سفيان ، عن فُرَات ، عن أبي الطُّفَيْل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ، ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة
حتى تَرَوْا عشر آيات : طُلوع الشمس من مَغْرِبها ، والدُّخَان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خُسوف : خَسْف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قَعْر عَدَن تسوق - أو : تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتَقيل معهم حيث قالوا " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة{[11435]} من حديث فرات القَزَّاز ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه :
قال الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعي ، عن حذيفة قال : سألت النبي{[11436]} صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ما آية طلوع الشمس من مغربها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تطول تلك الليلة حتى تكون قَدْر ليلتين ، فبينما الذين كانوا يصلون فيها ، يعملون{[11437]} كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا تسري ، قد قامت مكانها ، ثم يرقدون ، ثم يقومون فيصلون ، ثم يرقدون ، ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم ، حتى يتطاول عليهم الليل ، فيفزع الناس ولا يصبحون ، فبينما هم{[11438]} ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها ، فإذا رآها الناس آمنوا ، ولا ينفعهم إيمانهم " .
رواه ابن مَرْدُوَيه ، وليس في الكتب الستة من هذا الوجه{[11439]} والله أعلم .
حديث آخر عن أبي سعيد الخدري - واسمه : سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه وأرضاه :
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا ابن أبي ليلى ، عن عطية العَوْفي ، عن أبي سعيد الخُدْري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } قال : " طلوع الشمس من مغربها " .
ورواه الترمذي ، عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، به . وقال : غريب ، ورواه بعضهم ولم يرفعه{[11440]} .
وفي حديث طالوت بن عباد ، عن فَضَال بن جبير ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أوّلَ الآيات طلوعُ الشمس من مغربها " {[11441]} .
وفي حديث عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، عن صفوان بن عَسَّال قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله فتح بابًا قبل المغرب عرضه سبعون عامًا للتوبة " ، قال : " لا{[11442]} يغلق
حتى تطلع الشمس منه " . رواه الترمذي وصححه النسائي ، وابن ماجه في حديث طويل{[11443]} .
حديث آخر عن عبد الله بن أبي أوفى :
قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا ضرار بن صُرَد ، حدثنا ابن فضيل ، عن سليمان بن زَيد ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه ، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون ، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ، ثم ينام ، ثم يقوم فيقرأ حزبه ، ثم ينام . فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا : ما هذا ؟ فيفزعون إلى المساجد ، فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها ، فضج الناس ضجة واحدة ، حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها " . قال : " حينئذ لا ينفع نفسًا إيمانها " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه{[11444]} وليس هو في شيء من الكتب الستة .
حديث آخر عن عبد الله بن عمرو{[11445]}
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أبو حيان ، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير قال : جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه يقول - وهو يحدث في الآيات - : إن أولها خروج الدجال . قال : فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو ، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات ، فقال{[11446]} لم يقل مَرْوان شيئا قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحىً ، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها " . ثم قال عبد الله - وكان يقرأ الكتب - : وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع ، حتى إذا بدا الله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل : أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع ، فلم يرد عليها شيء ، ثم تستأذنُ في الرجوع فلا يرد عليها شيء ، ثم تستأذن فلا يرد عليها شيء ، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب ، وعرفت أنه إذا{[11447]} أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق ، قالت : ربي ، ما أبعد المشرق . من لي بالناس . حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع ، فيقال لها : من مكانك فاطلعي . فطلعت على الناس من مغربها " ، ثم تلا عبد الله هذه الآية : { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ] }{[11448]} الآية .
وأخرجه مسلم في صحيحه ، وأبو داود وابن ماجه ، في سننيهما ، من حديث أبي حيان التيمي - واسمه يحيى بن سعيد بن حيان - عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، به{[11449]} .
قال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حبان الرَّقِّي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - بن زبريق الحمصي - حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا ابن لهيعة ، عن حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي{[11450]} عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدًا ينادي ويجهر : إلهي ، مُرْني أن أسجد لمن شئت " . قال : " فيجتمع إليه زبانيته فيقولون : يا سيدهم ، ما هذا التضرع ؟ فيقول : إنما سألت ربي أن يُنْظِر إلى الوقت المعلوم ، وهذا الوقت المعلوم " . قال " ثم تخرج دابة الأرض من صَدْع في الصفا " . قال : " فأول خطوة تضعها بأنطاكيا ، فتأتي إبليس فَتَخْطمه{[11451]} . .
هذا حديث غريب جدًا وسنده ضعيف{[11452]} ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما{[11453]} عبد الله بن عمرو يوم اليرموك ، فأما رفعه فمنكر ، والله أعلم .
حديث آخر عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنهم أجمعين :
قال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن عبيد يرده إلى مالك بن يُخَامر ، عن ابن السعدي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل " . فقال معاوية ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمرو بن العاص : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الهجرة خصلتان : إحداهما{[11454]} تهجر السيئات ، والأخرى تهاجر{[11455]} إلى الله ورسوله ، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب{[11456]} فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه ، وكفى الناس العمل " . هذا الحديث حسن الإسناد{[11457]} ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، والله أعلم .
حديث آخر عن ابن مسعود ، رضي الله عنه :
قال عوف الأعرابي ، عن محمد بن سيرين ، حدثني أبو عبيدة ، عن ابن مسعود ؛ أنه كان يقول : ما ذكر من الآيات فقد مضى غير أربع : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخروج يأجوج ومأجوج . قال : وكان يقول : الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ، ألم تر أن الله يقول : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ] }{[11458]} الآية كلها ، يعني طلوع الشمس من مغربها{[11459]} .
حديث ابن عباس ، رضي الله عنهما :
رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس ، عن أبيه ، عن وَهْب ابن مُنَبِّه ، عن ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[11460]} مرفوعا - فذكر حديثًا طويلا غريبًا منكرًا رفعه ، وفيه : " أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ مقرونين{[11461]} وإذا نَصَفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه " . وهو حديث غريب جدًا{[11462]} بل منكر ، بل موضوع ، [ والله أعلم ]{[11463]} إن ادعى أنه مرفوع ، فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه - وهو الأشبه - فغير مدفوع{[11464]} والله أعلم .
وقال سفيان ، عن منصور ، عن عامر ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[11465]} قالت : إذا خرج أول الآيات ، طُرحت الأقلام ، وحبست الحفظة ، وشهدت الأجساد على الأعمال . رواه ابن جرير .
فقوله [ عَزَّ وجل ]{[11466]} { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } أي : إذا أنشأ الكافر إيمانًا يومئذ لا يقبل منه ، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك ، فإن كان مصلحًا في عمله فهو بخير عظيم ، وإن كان مخَلِّطًا فأحدث توبة حينئذ{[11467]} لم تقبل منه توبته ، كما دلت عليه{[11468]} الأحاديث المتقدمة ، وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } أي : ولا يقبل منها كَسْبُ عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك .
وقوله : { قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } تهديد شديد للكافرين ، ووعيد أكيد لمن سَوَّف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك . وإنما كان الحكم هذا عند طلوع الشمس من مغربها ، لاقتراب وقت القيامة ، وظهور أشراطها كما قال : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } [ محمد : 18 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ] }{[11469]} [ غافر : 84 ، 85 ] .
{ هل ينظرون } أي ما ينتظرون يعني أهل مكة ، وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين . { إلا أن تأتيهم الملائكة } ملائكة الموت أو العذاب . وقرأ حمزة والكسائي بالياء هنا وفي " النحل " . { أو يأتي ربك } أي أمر بالعذاب ، أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني أشراط الساعة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب : ( كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تذاكرون ؟ فقلنا : نتذاكر الساعة ، قال : " إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، ونار تخرج من عدن ) . { يوم يأتي بعض آيات ربك لا تنفع نفسه إيمانها } كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا والإمام برهاني . وقرئ " تنفع " بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث . { لم تكن آمنت من قبل } صفة نفسا . { أو كسبت في إيمانها } خيرا عطف على { آمنت } والمعنى : أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا ، وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم ، وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفسا خلت عنها إيمانها ، والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفسا إيمانها الذي حدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيرا . { قل انتظروا إنا منتظرون } وعيد لهم ، أي انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإن منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل .
استئناف بياني نشأ في قوله : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } [ الأنعام : 157 ] الآية ، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكّم ، كما سيأتي . فإن كان هذا وعيداً وتهديداً فهو ناشىء عن جملة : { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا } [ الأنعام : 157 ] لإثارته سؤال سائل يقول : متى يكون جزاؤهم ، وإن كان تهكّما بهم على صدفهم عن الآيات التي جاءتهم ، وتطلّعهم إلى آيات أعظم منها في اعتقادهم ، فهو ناشىء عن جملة : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } [ الأنعام : 157 ] لأنَّه يثير سؤال سائل يقول : ماذا كانوا يترقَّبون من الآيات فوق الآيات التي جاءتهم .
و { هل } للاستفهام الإنكاري ، وهي ترد له كما ترد له الهمزة على التّحقيق ، ولذلك جاء بعده الاستثناء .
و { ينظرون } مضارع نَظَر بمعنى انتظر ، وهو مشترك مع نظر بمعنى رأى في الماضي والمضارع والمصدر ، ويخالفه في التّعدية ، ففِعل نَظَر العين متعدّ بإلى ، وفعل الانتظار متعدّ بنفسه ، ويخالفه أيضاً في أنّ له اسم مصدر وهو النظِرة بكسر الظاء ولا يقال ذلك في النّظر بالعين . والضّمير عائد للّذين يصدفون عن الآيات .
ثمّ إنْ كان الانتظار واقعاً منهم على أنَّه انتظار آيات ، كما يقترحون ، فمعنى الحصر : أنَّهم ما ينتظرون بعد الآيات التي جاءتهم ولم يقتنعوا بها إلاّ الآيات التي اقترحوها وسألوها وشرطوا أن لا يؤمنوا حتّى يُجاءوا بها ، وهي ما حكاه الله عنهم بقوله : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } [ الإسراء : 90 92 ] وقوله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] فهم ينتظرون بعض ذلك بجِدّ من عامتَّهم ، فالانتظار حقيقة ، وبسخرية من قادتهم ومضلّليهم ، فالانتظار مجاز بالصّورة ، لأنَّهم أظهروا أنفسهم في مظهر المنتظرين ، كقوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا } [ التوبة : 64 ] الآية . والمراد ببعض آيات ربّك : ما يشمل ما حكي عنهم بقوله : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 90 93 ] . وفي قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } إلى قوله { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأنعام : 8 10 ] فالكلام تهكّم بهم وبعقائدهم .
وإن كان الانتظار غير واقع بجدّ ولا بسخرية فمعناه أنَّهم ما يترقَّبون شيئاً من الآيات يأتيهم أعظم ممَّا أتاهم ، فلا انتظار لهم ، ولكنّهم صمّموا على الكفر واستبطنوا العناد ، فإن فرض لهم انتظار فإنَّما هو انتظار ما سيَحل بهم من عذاب الآخرة أو عذاب الدّنيا أو ما هو برزخ بينهما ، فيكون الاستنثاء تأكيداً للشّيء بما يشبه ضدّه . والمراد : أنَّهم لا ينتظرون شيئاً ولكن سيجيئهم ما لا ينتظرونه ، وهو إتيان الملائكة ، إلى آخره ، فالكلام وعيد وتهديد .
والقصر على الاحتمالين إضافي ، أي بالنّسبة لما ينتظر من الآيات ، والاستفهام الخبري مستعمل في التهكّم بهم على الاحتمالين ، لأنَّهم لا ينتظرون آية ، فإنَّهم جازمون بتكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يسألون الآيات إفحاماً في ظنّهم .
ولا ينتظرون حساباً لأنَّهم مكذّبون بالبعث والحشر .
والإتيان بالنّسبة إلى الملائكة حقيقة ، والمراد بهم : ملائكة العذاب ، مثل الّذين نزلوا يوم بدر { إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان } [ الأنفال : 12 ] . وأمّا المسند إلى الرّب فهو مجاز ، والمراد به : إتيان عذابه العظيم ، فهو لعظم هوله جعل إتيانه مسنداً إلى الآمر به أمراً جازماً ليعرف مقدار عظمته ، بحسب عظيم قدرة فاعله وآمره ، فالإسناد مجازي من باب : بنى الأمير المدينة ، وهذا مجاز وارد مثله في القرآن ، كقوله تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] وقوله : { ووجد الله عنده فوفّاه حسابه } [ النور : 39 ] . ويجوز أن يكون المراد بقوله : { أو يأتي ربك } إتيان أمره بحساب النّاس يوم القيامة ، كقوله : { وجاء ربك والملك صفا صفاً } [ الفجر : 22 ] ، أي لا ينتظرون إلاّ عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة .
وعلى الاحتمالات كلّها يجوز أن يكون وقوع ذلك يوم القيامة ، ويجوز أن يكون في الدّنيا .
وجملة : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } مستأنفة استئنافاً بيانياً تذكيراً لهم بأنّ الانتظار والتريّث عن الإيمان وخِيمُ العاقبة ، لأنَّه مهدّد بما يمنع من التّدارك عند النّدامة ، فإمَّا أن يعقبه الموت والحساب ، وإمّا أن يعقبه مجيء آية من آيات الله ، وهي آية عذاب خارق للعادة يختصّ بهم فيعلموا أنَّه عقوبة على تكذيبهم وصَدْفهم ، وحين ينزّل ذلك العذاب لا تبقى فسحة لتدارك ما فات لأنّ الله إذا أنزل عذابه على المكذّبين لم ينفع عنده توبة ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] وقال تعالى : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين } [ الحجر : 8 ] وقال { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] .
ومن جملة آيات الله الآيات التي جعلها الله عامّة للنّاس ، وهي أشراط السّاعة : والتي منها طلوع الشّمس من مغربها حين تُؤذن بانقراض نظام العالم الدنيوي . روى البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون وذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل » ثمّ قرأ هذه الآية .
والنّفع المنفي هو النّفع في الآخرة ، بالنّجاة من العذاب ، لأنّ نفع الدّنيا بكشف العذاب عند مجيء الآيات لا ينفع النّفوس المؤمنة ولا الكافرة ، لقوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثمّ يحشرون على نياتهم » . والمراد بالنّفس : كلّ نفس ، لوقوعه في سياق النّفي .
وجملة : { لم تكن آمنت من قبل } صفة { نفساً } ، وهي صفة مخصّصة لعموم : { نفساً } ، أي : النّفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب ، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة . وتقديم المفعول في قوله : { نفساً إيمانها } ليتمّ الإيجاز في عود الضّمير .
وقوله : { أو كسبت في إيمانها خيراً } عطف على { آمنت } ، أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً .
و { في } للظرفيّة ، وإنَّما يصلح للظرفية مدّة الإيمان ، لا الإيمان ، أي أو كسبت في مدّة إيمانها خيراً . والخير هو الأعمال الصّالحة والطّاعات .
و { أو } للتّقسيم في صفات النّفس فيستلزم تقسيم النّفوس التي خصّصتها الصّفتان إلى قسمين : نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل ، فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله ، ونفوس آمنت ولم تكسب خيراً في مدّة إيمانها ، فهي نفوس مؤمنة ، فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربّك . وهذا القسم الثّاني ذو مراتب متفاوتة ، لأنّ التّقصير في اكتساب الخير متفاوت ، فمنه إضاعة لأعمال الخير كلّها ، ومنه إضاعة لبعضها ، ومنه تفريط في الإكثار منها . وظاهر الآية يقتضي أن المراد نفوس لم تكسب في إيمانها شيئاً من الخير أي اقتصرت على الإيمان وفرّطت في جميع أعمال الخير .
وقد علم من التّقسيم أنّ هذه النّفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء الآيات ، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله ، وهو ما منّ به على هذه الأمّة من غفران السيّئات عند التّوبة ، فالعزم على الخير هو التّوبة ، أي العزم على اكتساب الخير ، فوقع في الكلام إيجازُ حذف اعتمَاداً على القرينة الواضحة . والتّقدير : لا ينفع نفساً غيرَ مؤمنة إيمانُها أو نفساً لم تكن كسبت خيراً في إيمانها من قبل كسبها ، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير ، مثل التّوبة فإنَّها بعض اكتساب الخير ، وليس المراد أنّه لا ينفع نفساً مؤمنة إيمانُها إذا لم تكن قد كسبت خيراً بحيث يضيع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير ، لأنَّه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتّقسيم ، ولكفى أن يقال لا ينفع نفساً إيمانها لم تكسب خيراً ، ولأنّ الأدلّة القطعية ناهضة على أن الإيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يُدْحَض إذا فرّط صاحبه في شيء من الأعمال الصّالحة ، ولأنَّه لو كان كذلك وسلَّمناه لما اقتضى أكثر من أنّ الّذي لم يفعل شيئاً من الخير عدا أنَّه آمن لا ينفعه إيمانه ، وذلك إيجاد قسم لم يقل به أحد من علماء الإسلام .
وبذلك تعلم أنّ الآية لا تنهض حجّة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التّائب في النّار ، والتّسويةَ بينه وبين الكافر ، وإن كان ظاهرُها قبل التأمّل يوهم أنَّها حجّة لهم ، ولأنّه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدّخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثاً لا يرضاه عاقل لنفسه ، لأنّه يدخل في كلفةِ كثيرٍ من الأعمال بدون جدوى عليه منها ، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعاً . وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافة لا يرضاها من له نظر ثاقب . 6 والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحدّ الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير ، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جُزْءاً من الإيمان ، لا سيّما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال .
فصفة : { لم تكن آمنت من قبل } تحذير للمشركين من التريُّث عن الإيمان خشية أن يبغتهم يومُ ظهور الآيات ، وهم المقصود من السّياق . وصفة { أو كسبت في إيمانها خيراً } إدماج في أثناء المقصود لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصّالحة .
ثمّ إنّ أقوال المفسرين السّالفين ، في تصوير هذين القسمين ، تفرّقت تفرّقاً يؤذن باستصعاب استخلاص مقصود الآية من ألفاظها ، فلم تقارب الإفصاح بعبارة بيّنة ، ويجمع ذلك ثلاثة أقوال :
الأوّل : عن السدّي ، والضحاك : أنّ معنى { كسبت في إيمانها خيراً } : كسبت في تصديقها ، أي معه أو في مدّته ، عملاً صالحاً ، قَالا : وهؤلاء أهلُ القبلة ، فإن كانت مُصدّقة ولم تعمل قبل ذلك ، أي إتيان بعض آيات الله ، فعمِلت بعد أن رأت الآية لم يُقبل منها ، وإن عملتْ قبل الآية خيراً ثمّ عملت بعد الآية خيراً قُبل منها .
الثّاني : أنّ لفظ القرآن جرى على طريقة التّغليب ، لأنّ الأكثر ممّن ينتفع بإيمانه ساعتئذ هو من كسب في إيمانه خيراً .
الثّالث : أنّ الكلام إبهام في أحد الأمرين ، فالمعنى : لا ينفع يومئذ إيمان من لم يكن آمن قبل ذلك اليوم أو ضمّ إلى إيمانه فعل الخير ، أي لا ينفع إيمان من يؤمن من الكفار ولا طاعة من يطيع من المؤمنين . وأمّا من آمن قبل فإنَّه ينفعه إيمانه ، وكذلك من أطاع قبلُ نفعته طاعته .
وقد كان قوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } بعد قوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } ، مقتصراً على ما يأتي من آيات الله في اليوم المؤجّل له ، إعراضاً عن التعرّض لما يكون يوم تأتي الملائكة أو يأتي ربّك ، لأنّ إتيان الملائكة ، والمعطوف عليه غير محتمَل الوقوع وإنَّما جرى ذكره إبطالاً لقولهم : { أو تأتي باللَّه والملائكة قَبيلاً } [ الإسراء : 92 ] ونحوه من تهكّماتهم ، وإنَّما الذي يكون ممّا انتظروه هو أن يأتي بعض آيات الله ، فهو محلّ الموعظة والتّحذير ، وآيات القرآن في هذا كثيرة منها قوله تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] .
وآياتُ اللَّه منها ما يختصّ بالمشركين وهو ما هدّدهم الله به من نزول العذاب بهم في الدّنيا ، كما نزل بالأمم من قبلهم ، ومنها آيات عامّة للنّاس أجمعين ، وهو ما يُعرف بأشراط السّاعة ، أي الأشراط الكبرى .
وقد جاء تفسير هذه الآية في السنّة بطلوع الشّمس من مغربها . ففي « الصّحيحين » وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها فإذا رآها النّاس آمَن مَنْ عليها فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " . ثمّ قرأ هذه الآية ، أي قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك } إلى قوله { خيراً } . وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تاب قبل طلوع الشّمس من مغربها تاب الله عليه " . وفي « جامع التّرمذي » ، عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بابٌ مِن قِبل المغرب مفتوح مسيرة عَرضه أربعين سنة ( كذا ) مفتوح للتَّوبة لا يُغلق حتّى تطلُع الشّمس من مغربها " قال التّرمذي : حديث صحيح .
واعلم أنّ هذه الآية لا تعارض آية سورة النّساء ( 18 ) : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } لأنّ محمل تلك الآية على تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة للأحوال الخاصّة بآحاد النّاس ، وذلك ما فُسّر في حديث ابن عمر : أنّ رسول الله قال : إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ رواه التّرمذي ، وابن ماجه ، وأحمد . ( ومعنى يغرغر أن تبلغ روحه أي أنفاسه رأْس حلقه ) . ومحمل الآية التي نتكلّم فيها تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة إلى النّاس كافة ، وهي حالة يأس النّاس كلّهم من البقاء .
وجاء الاستئناف بقوله : قل انتظروا إنا منتظرون } أمراً للرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يهدّدهم ويتوعّدهم على الانتظار ، إن كان واقعاً منهم ، أو على التريُّثثِ والتّأخّر عن الدّخول في الإسلام الذي هو شبيه بالإنتظار إن كان الانتظار إدّعائياً ، بأن يأمرهم بالدّوام على حالهم التي عبّر عنها بالانتظار أمْرَ تهديد ، ويخبرهم بأنّ المسلمين ينتظرون نصر الله ونزول العقاب بأعدائهم ، أي : دوموا على انتظاركم فنحن منتظرون .
وفي مفهوم الصّفتين دلالة على أنّ النّفس التي آمنت قبل مجيء الحساب ، وكسبت في إيمانها خيراً ، ينفعها إيمانها وعملها . فاشتملت الآية بمنطوقها ومفهومها على وعيد ووعد مُجملين تبيّنهما دلائل الكتاب والسنّة .