{ 15 - 16 } { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يقول تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي : كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا ، وعلى زينتها من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة ، من الذهب ، والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام والحرث . قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء ، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا ، فهذا لا يكون إلا كافرا ، لأنه لو كان مؤمنا ، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا ، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة .
ولكن هذا الشقي ، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا .
{ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } أي : لا ينقصون شيئا مما قدر لهم ، ولكن هذا منتهى نعيمهم .
لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان ، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة . . داعي لا إله إلا الله . . لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول :
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون )
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته . سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة . فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها ، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ؛ ويتمتع بها كما يريد - في أجل محدود
قال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا ، صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل ، لا يعمله{[14523]} إلا التماس الدنيا ، يقول الله : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وهكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد .
وقال أنس بن مالك ، والحسن : نزلت في اليهود والنصارى . وقال مجاهد وغيره : نزلت في أهل الرياء{[14524]} .
وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وَسَدَمه{[14525]} وطَلِبَته ونيته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء . وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .
وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا{[14526]} .
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 18 - 21 ]{[14527]} ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } بإحسانه وبره . { نُوفّ إليهم أعمالهم فيها } نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الزرق وكثرة الأولاد . وقرئ " يوف " بالياء أي يوف الله و " نوف " على البناء للمعفول و " نوف " بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله :
وإن أتاه كريم يوم مسغبةٍ *** يقول لا غائب مالي ولا حرمُ
{ وهم فيها لا يُبخسون } لا ينقصون شيئا من أجورهم . والآية في أهل الرياء . وقيل في المنافقين . وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم .
وقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا } الآية ، قالت فرقة : ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة : هذا قول قتادة والضحاك{[6273]} ، وقال مجاهد : هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين : وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه ُشِفي بن ماتع الأصبحي{[6274]} عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء ، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة » فلما حدثه شفي بهذا الحديث ، بكى معاوية وقال : صدق الله ورسوله : وتلا : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآية ، إلى قوله : { وباطل ما كانوا يعملون }{[6275]} .
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله { يريد } يقصد ويعتمد ، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها . فالمعنى : من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله - في الدنيا - بالنعم والحواس وغير ذلك : فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها .
قال القاضي أبو محمد : فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية . وهو عندي أرجح التأويلات - بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن - فإنما قصد بهذه الآية { أولئك }{[6276]} .
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى { يريد } عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد ، وإن كان له مقصداً آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا ، ثم يأتي قوله : { ليس لهم } بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار ، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته ، وهذا ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير{[6277]} .
وقال أنس بن مالك : هي في أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية ، لا أنها ليست في غيرهم .
وقرأ جمهور الناس : : نوف «بنون العظمة ؛ وقرأ طلحة{[6278]} وميمون بن مهران » يوف «بياء الغائب{[6279]} .
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشىء عن جملة { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم ، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعاً لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّرُوا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعْلِموا بأنّ وراء ذلك العذابَ الدائم وأنّهم على الباطل ، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية ، أعني جملة { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار } الخ . . . وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول .
ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان ، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا ، وأن لا يحسبوا أيضاً أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم ، كما قال تعالى : { لا يغرنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل ، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله : { أولئك الذين ليس لَهمْ في الآخرة إلاّ النّار } إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود . ونظير هذه الآية { من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 18 ، 19 ] . فالمعنى من كان لا يطلب إلاّ منافع الحياة وزينتها . وهذا لا يصدر إلاّ عن الكافرين لأنّ المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلاّ لذلك ، فموْرد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة .
فأمّا قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردْن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتّعْكنّ وأسرّحْكن سراحاً جميلاً وإن كنتُنّ تُردن الله ورسوله والدّار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمُحْسنات منكُنّ أجراً عظيماً } [ الأحزاب : 28 ، 29 ] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس ، خلافاً لما يَقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترَف وتلك الزينة .
وضمير { إليهم } عائد إلى { مَن } الموصولة لأنّ المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة .
والتوفية : إعطاء الشيء وافياً ، أي كاملاً غير منقوص ، أي نجعل أعمالهم في الدّنيا وافية ومعنى وفائها أنّها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق ، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشىء عن معاكسة هوى النفس ، فالمراد أنهم لا يُنقصون من لذاتهم التي هيّأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا ، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيّأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيراً من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة .
وعُدّي فعل { نُوفّ } بحرف ( إلى ) لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين .
فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله : { نُوَفّ إليهم أعمالهم } ، فالتوفية : عدم النقص . وعلقت بالأعمال وهي المساعي . وإضافة الأعمال إلى ضمير { هم } تفيد أنها الأعمال التي عُنوا بها وأعدُّوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا نُدخل عليهم نقصاً في ذلك . وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوّهم من كُلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى ، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك .
وقوله : { وهم فيها لا يُبخسون } أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سَلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجاً لهم وإمهالاً . فهذا كالتكملة لمعنى جملة { نوف إليهم أعمالهم فيها } ، إذ البَخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلماً . وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله .
وضمير { فيها } يجوز أن يعود إلى { الحياة } وأن يعود إلى ( الأعمال ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"مَنْ كانَ يُرِيدُ" بعمله "الحَياةَ الدّنْيا "وإياها "وَزِينَتَها" يطلب به، "نوَفّ إلَيْهِمْ" أجور "أعْمَالَهُمْ فِيها" وثوابها. "وَهُمْ فِيها" يقول: وهم في الدنيا "لا يُبْخَسُونَ" يقول: لا يُنقصون أجرها، ولكنهم يُوَفّونه فيها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...الزِّينَة: تحسينُ الشيءِ بغيره من لِبْسةٍ أو حِلْيةٍ أو هَيْئةٍ،...
والتوفية: تأدية الحقِّ على تمامٍ.
والبخس: نقصان الحق... وقيل في العمل الذي يوفون حقهم من غير بخس... أن يصل الكافر رحمه أو يعطي سائلا سأله أو يرحم مضطرا أو غير ذلك من أفعال الخير، فإن الله تعالى يعجل له جزاء عمله في الدنيا بتوسيع الرزق، وإقرار العين فميا خول، ودفع مكاره الدنيا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ قَنَع منهم بدنيا الدناءةُ صِفَتُها وَسَّعْنَا عليه في الاستمتاع بأيام فيها، ولكن عَقِبَ اكتمالِها سيرى زوالَها، ويذوق بعد عسلِها حَنْظَلَها.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنيَا وَزِيَنَتَهَا نُوَفِّ إلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لاَ يُبخَسُونَ...}: معناه معنى قولِه:"إنّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، الحديث...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {يُرِيدُ}: يَقْصِد ويَعتمِد، أي هي وجهُه ومَقصِدُه لا مَقصِدَ له غيرُها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يَعتقد آخِرةً، فإن الله يُجازيه على حُسن أعمالِه -في الدنيا- بالنعِّمَ والحَواسِّ وغيرِ ذلك: فمنهم مُضَيَّقٌ عليه ومنهم مُوَسَّعٌ له، ثم حَكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حالٌ سواها...
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمدا صلى الله عليه وسلم في أكثر الأحوال، فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمدا مبطل ونحن محقون، وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل، وكانوا كاذبين فيه، بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وقوله: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}... والمرادُ بالإرادة ما يَحصُل عند مباشرةِ الأعمالِ لا مجردُ الإرادةِ القلبيّة لقوله تعالى: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وإدخالُ "كان "عليها للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلاً، وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنٍّ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما يهواه، فإن ذلك مَنوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطَق به قولُه تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نرِيدُ}... {لاَ يُبْخَسُونَ}... وإنما عَبّر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقٍّ فيما أُوتُوه كما عَبّر عن إعطائه بالتَّوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالَهم بمَعْزِلٍ من كونها مستوجِبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافَظةً على صور الأعمالِ ومبالَغةً في نفي النقصِ، كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يَدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلاً، والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقَصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصاً كلِّيّاً مطَّرِداً ولا يُحرَمونَها حِرماناً كلياً، وأما في الآخِرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقَّقِ كما يَنطِق به قولُه تعالى: {أُولَئِكَ}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} أي من كان كل حظه من وجوده التمتع بلذات هذه الحياة الأولى التي هي أدنى الحياتين اللتين خلق لهما وهي الطعام والشراب والوقاع، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأولاد والأموال، لا يريد مع ذلك استعدادا للحياة الآخرة ولقاء الله تعالى بالبر والإحسان، وتزكية النفس بباعث الإيمان {نوف إليهم أعمالهم فيها} أي نؤد إليهم ثمرات أعمالهم التي يعملونها وافية تامة بحسب سنتنا في الأسباب والمسببات ونظام الأقدار، وقد فصلنا هذا المعنى في التفسير مرارا.
{وهم فيها لا يبخسون} وهم لا ينقصون فيها شيئا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم، فإن مدار الأرزاق فيها على الأعمال السببية، لا على النيات والمقاصد الدينية، ولكن لهداية الدين تأثير فيها من ناحية الأمانة والاستقامة والصدق والنصح، واجتناب الخيانة والزور والغش، وغير ذلك من الصبر والتعاون على البر والتقوى، ولأهلها العاقبة الحسنة فيها. وكرر لفظ فيها للتأكيد والإعلام بأن الآخرة ليست كالدنيا في وفاء كيل الجزاء وفي بخسه، فإنه فيها منوط بأمرين: كسب الإنسان ونظام الأقدار، وقد يتعارضان، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى مباشرة {ولا يظلم ربك أحد} [الكهف: 49].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة.. داعي لا إله إلا الله.. لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون) إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا؛ ويتمتع بها كما يريد -في أجل محدود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14] لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعاً لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّرُوا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعْلِموا بأنّ وراء ذلك العذابَ الدائم وأنّهم على الباطل، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية، أعني جملة {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار} الخ... وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول. ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا، وأن لا يحسبوا أيضاً أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم، كما قال تعالى: {لا يغرنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196، 197]. وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله: {أولئك الذين ليس لَهمْ في الآخرة إلاّ النّار} إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود...
.قوله: {وهم فيها لا يُبخسون} أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سَلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجاً لهم وإمهالاً. فهذا كالتكملة لمعنى جملة {نوف إليهم أعمالهم فيها}، إذ البَخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلماً. وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ومعنى وفاءِ الأعمالِ أي إعطاء نتائجِها، فإذا زَرَع كان زرْعُه موفوراً، وإذا صَنَع كانت ثمراتُ صناعتِه كاملةً غيرَ منقوصةٍ، وكذلك إذا تاجَر لا يُحْرَم من شيءٍ من نتائج عملِه إلا أن يشاء اللهُ تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن هاتين الآيتين توحِيان للإنسان بأنه إذا حَدّد ما يريده في الحياة، فإن الله سيُعطيه ما يريده منها، على الطريقة التي يفكِّر بها على الصعيد الإيجابيِّ أو السلبيِّ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات أعلاه أكملت الحجة مع «دلائل إِعجاز القرآن» على المشركين والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول ـ لحفظ منافعهم الشخصيّة ـ بالرّغم من وضوح الحق، فالآيات هذه تشير إلى مصير هؤلاء فتقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)
هذه الآية سنة إِلهية دائمة، وهي أنّ الأعمال «الإِيجابية» والمؤثرة لا تضيع نتائجها، مع فارق وهو أنّه إذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإِنّ ثمراتها في الدنيا فحسب، وأمّا إذا كان الهدف هو «الله» وكسب رضاه فإِنّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضاً حيث تكون النتائج كثيرة الثمار...