وكذلك نزيل هذه الظلمة ، التي عمتهم وشملتهم ، فتطلع الشمس ، فتضيء الأقطار ، وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم ، ولهذا قال : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [ أي : دائما تجري لمستقر لها ] قدره اللّه لها ، لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، وليس لها تصرف في نفسها ، ولا استعصاء على قدرة اللّه تعالى . { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } الذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة ، بأكمل تدبير ، وأحسن نظام . { الْعَلِيمُ } الذي بعلمه ، جعلها مصالح لعباده ، ومنافع في دينهم ودنياهم .
( والشمس تجري لمستقر لها ) . .
والشمس تدور حول نفسها . وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها . ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها . إنما هي تجري . تجري فعلاً . تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية ! والله - ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها - يقول : إنها تجري لمستقر لها . هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه . ولا يعلم موعده سواه .
وحين نتصور ان حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه . وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء ، لا يسندها شيء ، ندرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم :
وقوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ، في معنى قوله : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قولان :
أحدهما : أن المراد : مستقرها المكاني ، وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب ، وهي أينما كانت فهي تحت العرش وجميع المخلوقات ؛ لأنه سقفها ، وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة ، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة ، وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس ، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون من العرش ، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام ، وهو وقت نصف الليل ، صارت أبعد ما تكون من العرش ، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع ، كما جاءت بذلك الأحاديث .
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم [ التيمي ] ، {[24738]} عن أبيه ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس ، فقال : «يا أبا ذر ، أتدري أين تغربُ الشمس ؟ » قلت : الله ورسوله أعلم . قال : «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش » ، فذلك قوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
حدثنا عبد الله بن الزبير الحُميديّ ، حدثنا وَكِيع عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال : " مستقرها تحت العرش " . {[24739]}
كذا أورده هاهنا . وقد أخرجه في أماكن متعددة{[24740]} ، ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه ، من طرق ، عن الأعمش ، به . {[24741]}
وقال{[24742]} الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس ، فقال : «يا أبا ذر ، أتدري أين تذهب الشمس ؟ » قلت : الله ورسوله أعلم . قال : «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل ، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها ، وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت » . فترجع إلى مطلعها ، وذلك مستقرها ، ثم قرأ : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا }{[24743]}
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : «أتدري أين هذا ؟ » قلت : الله ورسوله أعلم . قال : «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، ويقال لها : ارجعي من حيث جئت . فتطلع من مغربها » ، فذلك قوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }{[24744]} . وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن وهب بن جابر ، عن عبد الله بن عمرو قال في قوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال : إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم ، حتى إذا غربت سلَّمت وسجدت واستأذنت فيؤذن لها ، حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت ، واستأذنت فلا يؤذن لها ، فتقول : إن المسير بعيد وإني إلا يؤذن لي لا أبلغ ، فتحبس ما شاء الله أن تحبس ، ثم يقال لها : " اطلعي من حيث غربت " . قال : " فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرًا " . {[24745]}
وقيل : المراد بقوله : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها ، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض .
والقول الثاني : أن المراد بمستقرها هو : منتهى سيرها ، وهو يوم القيامة ، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور ، وينتهي هذا العالم إلى غايته ، وهذا هو مستقرها الزماني .
قال قتادة : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } أي : لوقتها ولأجل لا تعدوه .
وقيل : المراد : أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها ، يروى هذا عن عبد الله بن عمرو .
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لا مُسْتَقَرَّ لَهَا " أي : لا قرار لها ولا سكون ، بل هي سائرة ليلا ونهارًا ، لا تفتر ولا تقف . كما قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ } [ إبراهيم : 33 ] أي : لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة .
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } أي : الذي لا يخالَف ولا يُمانَع ، { الْعَلِيم } بجميع الحركات والسكنات ، وقد قدر ذلك وقَنَّنَه على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] . وهكذا ختم آية{[24746]} حم السجدة " بقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 12 ] .
{ والشمس تجري لمستقر لها } : لحد معين ينتهي إليه دورها ، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال :
*** والشمس حيرى لها بالجو تدويم ***
أو لاستقرار لها على نهج مخصوص ، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب ، فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين مشرقا ومغربا ، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليها إلى العام القابل ، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم . وقرئ { لا مستقر لها } أي :لا سكون فإنها متحركة دائما و " لامستقر " على أن " لا " بمعنى ليس . { ذلك } الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن إحصائها . { تقدير العزيز } : الغالب بقدرته على كل مقدور . { العليم } : المحيط علمه بكل معلوم .
و «مستقر الشمس » على ما روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذؤيب «بين يدي العرش تمجد فيه كل ليلة بعد غروبها »{[1]} ، وفي حديث آخر
«أنها تغرب في عين حمئة ولها ثم وجبة عظيمة » ، وقالت فرقة : مستقرها هو في يوم القيامة حين تكون فهي تجري لذلك المستقر ، وقالت فرقة : مستقرها كناية عن غيوبها ؛ لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، وقيل : مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين لأنهما نهاية مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة ، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين ، ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، وقالت فرقة : مستقرها وقوفها عند الزوال في كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ظلال الأشياء حينئذ ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح وأبو جعفر ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، :{ والشمس تجري لا مستقر لها } .