{ 17 } { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }
يذكر تعالى ، حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه ، وحججه الموقنين بذلك ، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم ، فقال : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } بالوحي الذي أنزل{[428]} الله فيه المسائل المهمة ، ودلائلها الظاهرة ، فتيقن تلك البينة .
{ وَيَتْلُوهُ } أي : يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو شاهد الفطرة المستقيمة ، والعقل الصحيح ، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه ، وعلم بعقله حسنه ، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه .
{ و } ثم شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها الله { إِمَامًا } للناس { وَرَحْمَةً } لهم ، يشهد لهذا القرآن بالصدق ، ويوافقه فيما جاء به من الحق .
أي : أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان ، وقامت لديه أدلة اليقين ، كمن هو في الظلمات والجهالات ، ليس بخارج منها ؟ !
لا يستوون عند الله ، ولا عند عباد الله ، { أُولَئِكَ } أي : الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم ، { يُؤْمِنُونَ } بالقرآن حقيقة ، فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والآخرة .
{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } أي : القرآن { مِنَ الْأَحْزَابِ } أي : سائر طوائف أهل الأرض ، المتحزبة على رد الحق ، { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } لا بد من وروده إليها { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه } أي : في أدنى شك { إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } إما جهلا منهم وضلالا ، وإما ظلما وعنادا وبغيا ، وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما ، فلا بد أن يؤمن به ، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [ ص ] وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ أولئك يعرضون على ربهم ؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) . .
إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا .
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله !
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) . . وفي قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) . وفي عائد هذه الضمائر في : ( ربه )وفي ( يتلوه ) وفي ( منه ) . . وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) هو رسول الله [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه )أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . ( ومن قبله )- أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ " كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .
والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ . . وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : ال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا ) . . فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا .
ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله [ ص ] بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله .
يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين ؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول - [ ص ] - والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :
( أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )إذا كان المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه )هو شخص رسول الله [ ص ] كما أسلفنا . . فإن أولئك " تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى ( أولئك يؤمنون به )يعود على " شاهد " وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى ( ومن قبله )فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : ( أولئك يؤمنون به )- أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول [ ص ] هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . )كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله [ ص ] وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .
( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) . .
وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره !
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما شك رسول الله [ ص ] فيما أوحي إليه ، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :
( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .
وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله [ ص ] إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين !
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !
ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : ( إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ، وبعيدا عن الحركة . . . ) .
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده ، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء ؟ " {[14528]} . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم " {[14529]} . وفي المسند والسنن : " كل مولود يولد على هذه الملة ، حتى يُعرِب عنه لسانه " {[14530]} الحديث ، فالمؤمن باق على هذه الفطرة . [ وقوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أي ]{[14531]} : وجاءه شاهد من الله ، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء ، من الشرائع المطهرَة المُكَمَّلَة المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بشريعة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، والسُّدِّي ، وغير واحد في قوله تعالى : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } إنه جبريل عليه السلام .
وعن علي ، والحسن ، وقتادة : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وكلاهما قريب في المعنى ؛ لأن كلا من جبريل ومحمد ، صلوات الله عليهما ، بلَّغ رسالة الله تعالى ، فجبريل إلى محمد ، ومحمد إلى الأمة{[14532]} .
وقيل : هو عليّ . وهو ضعيف لا يثبت له قائل ، والأول والثاني هو الحق ؛ وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة ، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة ، والفطرة تصدقها وتؤمن بها ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو القرآن ، بلّغه جبريل إلى النبي [ محمد ]{[14533]} صلى الله عليه وسلم ، وبلغه النبي محمد إلى أمته .
ثم قال تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } أي : ومن قبل [ هذا ]{[14534]} القرآن كتاب موسى ، وهو التوراة ، { إِمَامًا وَرَحْمَةً } أي : أنزل الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم ، وقدوة{[14535]} يقتدون بها ، ورحمة من الله بهم . فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } .
ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } أي : ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركيهم : أهل{[14536]} الكتاب وغيرهم ، من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ، ممن بلغه القرآن ، كما قال تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] . وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وفي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " {[14537]} .
وقال أيوب السختياني ، عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال : تصديقه - في القرآن ، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار " . فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله ؟ قال : وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن ، حتى وجدت هذه الآية : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : " من الملل كلها " {[14538]}
قوله : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : القرآن حق من الله ، لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ] } [ البقرة : 1 ، 2 ]{[14539]} .
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 20 ] .
بطل على الفعل { أفمن كان على بيّنة من ربه } برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة ، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا ، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص . وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب . { ويتلوه } ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل . { شاهدٌ منه } شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن . { ومن قبله } ومن قبل القرآن . { كتاب موسى } يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق ، أو البينة هو القرآن { ويتلوه } من التلاوة والشاهد جبريل ، أو لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه . والضمير في { يتلوه } إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى { ومن قبله كتاب موسى } جملة مبتدأة . وقرئ { كتاب } بالنصب عطفا على الضمير في { يتلوه } أي يتلو القرآن شاهد ممن أن على بينة دالة على أنه حق كقوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ويقرأ من قبل القرآن التوراة . { إماماً } كتابا مؤتما به في الدين . { ورحمة } على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين . { أولئك } إشارة إلى من كان على بينة . { يؤمنون به } بالقرآن . { ومن يكفر به من الأحزاب } من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . { فالنار موعده } يردها لا محالة . { فلا تك في مرية منه } من الموعد ، أو القرآن وقرئ " مُريةٍ " بالضم وهما الشك . { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لقلة نظرهم واختلال فكرهم .