ثم قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذا استفهام إنكاري ، أي : لا تظنوا ، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فإن الجنة أعلى المطالب ، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون ، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته ، والعمل الموصل إليه ، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم ، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها ، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه ، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها ، ولا يبالون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة ، وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور : تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان : أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
إنما هي التجربة الواقعية ، والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ، ثم الصبر على تكاليف الجهاد ، وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى :
( ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) . . ( ويعلم الصابرين ) . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ، ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي : معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني : في النفس وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . . والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
ثم قال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " [ البقرة : 214 ] وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء .
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } : بل أحسبتم ومعناه الإنكار . { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } : ولما تجاهدوا ، وفيه دليل على أن الجهاد فرض كفاية ، والفرق بين { لما } ولم ، أن ''لما'' فيه توقع الفعل فيما يستقبل . وقرئ { يعلم } بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون ، { ويعلم الصابرين } : نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع . وقرئ بالرفع على أن الواو للحال كأنه قال : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.