{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ْ } أي : تجدنهم في حال المحاربة ، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق .
{ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ْ } أي : نكل بهم غيرهم ، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [ به ]{[351]} عبرة لمن بعدهم { لَعَلَّهُمْ ْ } أي من خلفهم { يَذْكُرُونَ ْ } صنيعهم ، لئلا يصيبهم ما أصابهم ، وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي ، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي ، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها .
ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر - أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته .
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم ، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم ، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم ، والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين ، مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع :
( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) . .
وإنه لتعبير عجيب ، يرسم صورة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد ، وانطلقوا من ضوابط الإنسان ، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً ، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة ، ولا بد له من قوة ، ولا بد له من سطوة ، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت ، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } أي : تغلبهم وتظفر بهم في حرب ، { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ } أي : نكل بهم ، قاله : ابن عباس ، والحسن البصري ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، وابن عيينة ،
ومعناه : غَلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء ، من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيُصنع{[13094]} بهم مثل ذلك .
{ فَإِمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإما تلقين في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرّة بعد مرّة من قريظة فتأسرهم ، فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول : فافعل بهم فعلاً يكون مشرّدا مَن خلفهم من نظرائهم ممن بينك وبينه عهد وعقد . والتشريد : التطريد والتبديد والتفريق . وإنما أمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه وبينهم إذا قدر عليهم فعلاً يكون إخافة لمن وراءهم ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد ، حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية من نقض العهد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يعني : نكّلْ بهم من بعدهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول : نكل بهم من وراءهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول : عظ بهم من سواهم من الناس .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول : نكل بهم من خلفهم من بعدهم من العدوّ ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فيُصْنَع بهم مثل ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال : أنذر بهم من خلفهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قال : نكل بهم من خلفهم من بعدهم . قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : نكل بهم من وراءهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ : أي نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ يقول : نكل بهم مَن بعدهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال : أخفهم بما تصنع بهؤلاء وقرأ : وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ .
وأما قوله : لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ فإن معناه : كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم ، فيحذروا نقض العهد الذي بينك وبينهم ، خَوْفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه .
دخلت النون مع «إما » تأكيداً ولتفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك جاءني إما زيد وإما عمرو { وتثقفهم } معناه وتحصلهم في ثقافك أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم ، وهذا لازم من اللفظ لقوله { في الحرب } ، وقيل ثقف أخذ بسرعة ومن ذلك قولهم : رجل ثقف لقف{[5416]} ، وقال بعض الناس معناه تصادفنهم إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى ، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به ، وقد لا يغلب ، والثقاف في اللغة ما تشد به القناة ونحوها ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إن قناتي لنبع ما ُيَؤِّيسها*** عض الثقاف ولا دهن ولا نار{[5417]}
تدعو قعيناً وقد عضّ الحديد بها*** عض الثقاف على صم الأنابيب{[5418]}
وقوله { فشرد } معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم ، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه ، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفاً لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به ، وسواء كان معاصراً لهم أم لا ، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه ، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريداً لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم ، والضمير في { لعلهم } عائد على الفرقة المشردة ، وقال ابن عباس : المعنى نكل بهم من خلفهم ، وقالت فرقة «شرد بهم » معناه سمع بهم ، حكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، والمعنى متقارب لأن التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولاً ، وفي مصحف عبد الله «فشرذ » بالذال منقوطة ، وهي قراءة الأعمش ولم يحفظ شرذ في لغة العرب ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل{[5419]} ، وقرأ أبو حيوة وحكاها المهدوي عن الأعمش بخلاف عنه : «مِن خلفهم » بكسر الميم من قوله { من } وخفض الفاء من قوله { خلفهم } والترجي في قوله { لعلهم } بحسب البشر ، و { يذكرون } معناه يتعظون .
وفي « شرح الرضي على الحاجبية » ، عن بعض النحاة : لا يجيء ( إمّا ) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : { فإما ترين } [ مريم : 26 ] . وقال ابن عطية في قوله : { فإما تثقفنهم } دخلت النون مع إما : إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو .
وقلت : دخول نون التوكيد بعد ( إنْ ) المؤكَّدةِ بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :
إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا *** إنَّا كذلكِ ما تَحفى وننتعل
فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد .
والثقف : الظفَر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم .
والتشريدُ : التطريد والتفريق ، أي : فبعِّد بهم مَن خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .
وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] . وقد علم أنّ متعلّق تشريد { من خَلفهم } هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .
والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع ، ونظيره ( الوراء ) . في قول ضمّام بن ثعلبة : « وأنا رسول من ورائي » . وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم « فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا » ، والمعنى : فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية ، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ، لأنّهم استحقّوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين ، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .
وضمير الغيبة في { لعلهم يذكرون } راجع إلى { من } الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .
والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد ، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال ، ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإما تثقفنهم في الحرب} يقول: فإن أدركتهم في الحرب، يعنى القتال، فأسرتهم، {فشرد بهم من خلفهم} يقول: نكل بهم لمن بعدهم من العدو وأهل عهدك، {لعلهم يذكرون} يقول: لكي يذكروا النكال، فلا ينقضون العهد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقين في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرّة بعد مرّة من قريظة فتأسرهم، "فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ "يقول: فافعل بهم فعلاً يكون مشرّدا مَن خلفهم من نظرائهم ممن بينك وبينه عهد وعقد. والتشريد: التطريد والتبديد والتفريق. وإنما أمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه وبينهم إذا قدر عليهم فعلاً يكون إخافة لمن وراءهم ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد، حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد... عن قتادة، قوله: "فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" يقول: عظ بهم من سواهم من الناس...
عن السديّ: "فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" يقول: نكل بهم من خلفهم من بعدهم من العدوّ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فيُصْنَع بهم مثل ذلك...
عن سعيد بن جبير: "فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" قال: أنذر بهم من خلفهم...
وأما قوله: "لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ" فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم، فيحذروا نقض العهد الذي بينك وبينهم، خَوْفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
أبان أن المقصود من التنكيل بالأسر، زجر من سواهم، ولأجله شرعت العقوبات...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} فإما تصادفنهم وتظفرن بهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم ...
... «من خلفهم» ومعناه: فافعل التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه؛ لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله {فشرد} معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفاً لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، وسواء كان معاصراً لهم أم لا، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريداً لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، والضمير في {لعلهم} عائد على الفرقة المشردة..
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، بيّن ما يجب أن يعاملوا به فقال: {فإما تثقفنهم في الحرب}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
..ومعناه: غَلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء، من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشئ عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلباس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس، فقال مؤكداً لأجل ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من محبة الرفق: {فإما تثقفنهم...}...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{لَعَلَّهُمْ} لعل الذين خلفهم {يَذَّكَّرُونَ} بقتلك المشرد لهم فيسلمون خوف أَن يصيبهم القتل، وهذا خضوع، ومجرد إِذعان للخوف، أَو يفهمون أَنك نصرت لأَنك على الحق فيؤمنون، أَو يتركون النقض.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى حكمهم بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم {فإما تثقفنهم في الحرب} قال الراغب: الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه استعير المثاقفة ورمح مثقف وما يثقف به الثقاف... (قال) ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة. واستشهد بهذه الآية وغيرها، وقال غيره هو يدل على إدراكهم مع التمكن منهم والظهور عليهم. وفيه إيذان بأنهم سيحاربونه صلى الله عليه وسلم، لأن نقض العهد يكون بالحرب أو بما يقتضيها ويستلزمها وذلك من أنباء الغيب، إذ كان قبل وقوعه عقب غزوة بدر. والمعنى: فإن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتصادفهم في الحرب ظاهرا عليهم {فشرد بهم من خلفهم} أي فنكل بهم تنكيلا يكونون به سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم كالإبل الشاردة النادة اعتبارا بحالهم.
والمراد بمن خلف يهود المدينة كفار مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم، فإنهم هم الذين تواطأوا مع اليهود الناكثين لعهده صلى الله عليه وسلم على قتاله، وإنما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم وعده الحرب ضرورة اجتماعية تترك إذا زالت الضرورة الدافعة إليها، على القاعدة العامة التي ستأتي في آية {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61] وهؤلاء أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون في السلم، معتذرين عن نقضهم للعهد، وكانوا في ذلك مخادعين. والدليل على أن هذا الأمر بالغلظة عليهم والإثخان فيهم لتربيتهم واعتبار أمثالهم بحالهم دون حب الحرب أو الطمع في غنائمها قوله عزَّ وجلَّ {لعلهم يذكرون} أي لعل من خلفهم من الأعداء يتعظون ويعتبرون فلا يقدمون على القتال، ولا يعود المعاهد منهم لنقض العهد ونكث الإيمان. وقد روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بعض أيامه التي لقي فيها العدو فقال: (يا أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم). وهذا يؤيد ما دلت عليه الآية من أن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله لذاتها ولا لما فيها من مجد الدنيا، وإنما هي ضرورة اجتماعية يقصد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق والإيمان، ودحض الباطل واكتفاء شر أهله، بناء على سنة {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17] وتسمى في عرف عصرنا سنة الانتخاب الطبيعي.
وهذا الإرشاد الحربي في استعمال القسوة مع البادئين بالحرب والناقضين فيها لعهود السلم والتنكيل بالشر لتشريد من وراءهم متفق عليه بين قواد الحرب في هذا العصر، ولكنهم يقصدون مع ذلك الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والسعي لإذلال العباد، والتمتع بالغنائم من مال وعقار، ودون الموعظة والتربية بالاعتبار.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها. ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر -ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر- أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه لتعبير عجيب، يرسم صورة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود. فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب؟ إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [صلى الله عليه وسلم] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد، وانطلقوا من ضوابط الإنسان، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد.. إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة. إن هذا الدين لا بد له من هيبة، ولا بد له من قوة، ولا بد له من سطوة، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير "الإنسان "في "الأرض" من كل طاغوت. والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم، لأنّهم استحقّوها. وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين. فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآية بعدها توضح كيفية أُسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: (فإِمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم مَن خلفهم) أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.
وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ الشيء بدقة وسرعة، وهي إشارة إِلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.
وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأُخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.
وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد كذلك الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا (لعلهم يذكّرون).