يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ، كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء والمرسلين ، ففيه بيان فضله ، بإنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، سابقا ولاحقا ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ، وأن طريقته طريقة من قبله ، وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين . وما جاء به يشابه ما جاءوا به ، لأن الجميع حق وصدق ، وهو تنزيل من اتصف بالألوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة ، وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي .
( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . .
أي مثل ذلك ، وعلى هذا النسق ، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك . فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها ؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها .
ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي . وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم . والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان . والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان : ( إليك وإلى الذين من قبلك ) . .
إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان . وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات . ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع .
وهذه الحقيقة - على هذا النحو - حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه . وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي : ( الله العزيز الحكيم ) . . كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن ؛ وتتصل كلها بالله في النهاية ، فيلتقون فيه جميعاً . وهو( العزيز )القوي القادر( الحكيم )الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير . فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ؛ ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم ?
وقوله : { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : كما أنزل إليك هذا القرآن ، كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك . وقوله : { اللَّهُ الْعَزِيزُ } أي : في انتقامه ، { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله .
قال : الإمام مالك - رحمه الله - عن هشام بن عُرْوَة عن أبيه ، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَس ، وهو أشده عَلَيّ فيفصم عني قد وَعَيت ما قال . وأحيانا يأتيني الملك رجُلا فيكلمني ، فأعي ما يقول " قالت عائشة{[25762]} فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصّد عرقا .
أخرجاه في الصحيحين ، ولفظه للبخاري{[25763]} .
وقد{[25764]} رواه الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد ، عن أبيه ، عن عامر بن صالح ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن الحارث بن هشام ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال : " مثل{[25765]} صلصلة الجرس فيفصمُ عني وقد وعَيتُ ما قاله " قال : " وهو أشده علي " قال : " وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول " {[25766]} .
وقال : الإمام{[25767]} أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو{[25768]} ، رضي الله عنهما ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك ، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تُقبَض " تفرد به أحمد{[25769]} .
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري ، بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : كَذَلَكَ يُوحِي إلَيْكَ وَإلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول تعالى ذكره : هكذا يوحِي إليك يا محمد وإلى الذين من قبلك من أنبيائه . وقيل : إن حم عين سين ق أوحيت إلى كلّ نبيّ بُعث ، كما أُوحيت إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قيل : كَذَلَكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ العَزِيزُ في انتقامه من أعدائه الحَكِيمُ في تدبيره خلقه .
والكاف في قوله : { كذلك } نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك تختلف بحسب الأقوال في الحروف .
وقرأ جمهور القراء : «يوحي » بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي جعفر والجحدري وعيسى وطلحة والأعمش . وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر عن عاصم : «نوحي » : بنون العظمة ، ويكون قوله : { الله } ابتداء وخبره : { العزيز } ويحتمل أن يكون خبره : { له ما في السماوات } . وقرأ ابن كثير وحده : «يوحَى » بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة مجاهد ، والتقدير : يوحى إليك القرآن يوحيه الله ، وكما قال الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة{[10106]}
ومنه قوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال }{[10107]} .
وقوله تعالى : { وإلى الذين من قبلك } يريد من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.