تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

أُولَئِكَ الذين اتصفوا بتلك الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان ، بين الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة ، بين العلم والعمل ، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده . وقدم تعالى أعمال القلوب ، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها ، . وفيها دليل على أن الإيمان ، يزيد وينقص ، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها .

وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه ، . وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى والتأمل لمعانيه . ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال : لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي : عالية بحسب علو أعمالهم . وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة .

5 - 8 كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير :

( أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ، ومغفرة ، ورزق كريم ) . .

فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق . فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان . وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات . . ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء ، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات ( لهم درجات عند ربهم ) . . وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم( مغفرة ) . . وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم ( رزق كريم ) . . فتغطي الحالة كلها ، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف . وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية ؛ وهي أن هذه صفات المؤمنين ، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان .

( أولئك هم المؤمنون حقاً ) . . .

وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه ، وأنه ليس الإيمان دعوى ولا كلمات لسان ، ولا هو بالتمني . . قال الحافظ الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد السكسكي ، عن سعيد ابن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أنه مر برسول الله [ ص ] فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ? " قال : أصبحت مؤمناً حقا . قال : " انظر ما تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ? " فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري . وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا . وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها . وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال : " يا حارث . عرفت فالزم " . . ثلاثاً . . . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله [ ص ] له بالمعرفة من حال نفسه ، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة . فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً ، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يتضاغون فيها ، لا ينتهي إلى مجرد النظر . إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها . ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره ، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً . . . .

إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب ؛ فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان ، ومن ورائها واقع يشهد ظاهرة شهادة بعكس ما يقوله اللسان ! إن التحرج ليس معناه التميع ! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب ؛ والتحرج في تصورها ألزم . وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع ، التي غلبت عليها الجاهلية ، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

وقوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } أي : المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن خالد بن يزيد{[12659]} السَّكْسَكِيّ ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ؛ أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ؟ " قال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : " انظر ماذا{[12660]} تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ " فقال : عَزَفَت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتَضاغَوْن فيها ، فقال : " يا حارث ، عرفت فالزم " ثلاثا{[12661]}

وقال عمرو بن مُرَّة في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } إنما أُنزلَ{[12662]} القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء .

وقوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات ودرجات في الجنات ، كما قال تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ آل عمران : 163 ]

{ ومغفرة } أي : يغفر لهم السيئات ، ويشكر لهم الحسنات .

وقال الضحاك في قوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد .

ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء " ، قالوا{[12663]} يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ، لا ينالها غيرهم ؟ فقال : " بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " {[12664]}

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد [ و ]{[12665]} أهل السنن من حديث عَطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَمَا " {[12666]}


[12659]:في د، م: "زيد".
[12660]:في م، أ: "ما".
[12661]:المعجم الكبير (3/266) قال الهيثمي في المجمع (1/57): "فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".
[12662]:في د، ك، م: "نزل".
[12663]:في أ: "فقالوا".
[12664]:صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
[12665]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12666]:المسند (3/61) وسنن أبي داود برقم (3987) وسنن الترمذي برقم (3658) وسنن ابن ماجة برقم (96).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . .

يقول تعالى ذكره : الذين يؤدّون الصلاة المفروضة بحدودها ، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه من زكاة وجهاد وحجّ وعمرة ونفقة على من تجب عليهم نفقته ، فيؤدّون حقوقهم . أولَئِكَ يقول : هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال . هُمُ المُؤْمِنُونَ لا الذين يقولون بألسنتهم قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقا ، لا يقيمون صلاة ولا يؤدّون زكاة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ يقول : الصلوات الخمس . وممّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يقول : زكاة أموالهم . أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا يقول : برئوا من الكفر . ثم وصف الله النفاق وأهله ، فقال : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهَ وَرُسُلِهِ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا فجعل الله المؤمن مؤمنا حقّا ، وجعل الكافر كافرا حقّا ، وهو قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا قال : استحقوا الإيمان بحقّ ، فأحقه الله لهم .

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : لَهُمْ دَرَجاتٌ لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم درجات ، وهي مراتب رفيعة .

ثم اختلف أهل التأويل في هذه الدرجات التي ذكر الله أنها لهم عنده ما هي ، فقال بعضهم : هي أعمال رفيعة وفضائل قدّموها في أيام حياتهم . ذكر من قال ذلك .

حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : أعمال رفيعة .

وقال آخرون : بل ذلك مراتب في الجنة . ذكر من قال ذلك .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن جبلة ، عن عطية ، عن ابن محيريز : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الدرجات سبعون درجة ، كل درجة حضر الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة .

وقوله وَمَغْفرَةٌ يقول : وعفو عن ذنوبهم وتغطية عليها . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قيل : الجنة . وهو عندي ما أعدّ الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَغْفِرَةٌ قال : لذنوبهم . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قال : الجنة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

وقوله { أولئك هم المؤمنون حقاً } يريد كل المؤمنين{[5221]} ، و { حقاً } مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه ، وهو المصدر غير المتنقل ، والعامل فيه أحق ذلك حقاً{[5222]} ، وقوله { درجات } ظاهره ، وهو قول الجمهور ، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا ، وقوله { ورزق كريم } يريد به مآكل الجنة ومشاربها ، و { كريم } صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم .


[5221]:- "كل" بالرفع- والمعنى أنهم الكاملون في إيمانهم.
[5222]:- قال الزمخشري: [حقا] صفة لمصدر محذوف، أي: "أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا"، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك هم المؤمنون} والتقدير: حق ذلك حقا، كقولك: "هو عبد الله حقا"، إذ التقدير فيها: حق ذلك حقا.