ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } فاكتفوا بتقليد الآباء ، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء ، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس ، وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية ، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ، ورغبتهم عنه ، وعدم إنصافهم ، فلو هدوا لرشدهم ، وحسن قصدهم ، لكان الحق هو القصد ، ومن جعل الحق قصده ، ووازن بينه وبين غيره ، تبين له الحق قطعا ، واتبعه إن كان منصفا .
( وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) . .
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام ، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه ، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك :
( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) .
أولو كان الأمر كذلك ، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم ؟ فأي جمود هذا وأي تقليد ؟ !
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء الكفرة من المشركين : { اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } على رسوله ، واتركوا ما أنتم فيه{[3054]} من الضلال والجهل ، قالوا في جواب ذلك : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي : وجدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : من عبادة الأصنام والأنداد . قال الله تعالى منكرًا عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي : الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } أي : ليس لهم فهم ولا هداية ! ! .
وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنها نزلت في طائفة من اليهود ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . فأنزل الله هذه الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }
وفي هذه الآية وجهان من التأويل : أحدهما أن تكون الهاء والميم من قوله : وَإذَا قيلَ لَهمْ عائدة على «مِن » في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخذ مِنْ دَونِ الله أنْدَادا فيكون معنى الكلام : ومن الناس مَن يتخذ من دون الله أندادا ، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .
والاَخر أن تكون الهاء والميم اللتان في قوله : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ من ذكر «الناس » الذين في قوله : يا أيّها النّاسُ كلُوا مِمَا في الأرْضِ حَلالاً طَيّبا ، فيكون ذلك انصرافا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب كما في قوله تعالى ذكره : حّتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ . وأشبه عندي وأولى بالآية أن تكون الهاء والميم في قوله لهم من ذكر «الناس » ، وأن يكون ذلك رجوعا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب ، لأن ذلك عقيب قوله : يا أيّها النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الأرْضِ فلأن يكون خبرا عنهم أولى من أن يكون خبرا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ من دون الله أندادا مع ما بينهما من الاَيات وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرها ، وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك إذْ دعوا إلى الإسلام . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذّرهم عقاب الله ونقمته ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فإنهم كانوا أعلم وخيرا منا فأنزل الله من قولهما : وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعَوا ما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْيَنْا عَلَيه آباءَنا أولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدون .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس ، مثله ، إلا أنه قال : فقال له أبو رافع بن خارجة ومالك بن عوف .
وأما تأويل قوله : اتّبِعُوا ما أنْزَلَ اللّهَ فإنه : اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله ، فأحلوا حلاله وحرّموا حرامه ، واجعلوه لكم إماما تأتمّون به ، وقائدا تتبعون أحكامه . وقوله : ألفْيَنْا عَلَيْه آباءَنا يعني وجدنا ، كما قال الشاعر :
فألْفَيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ وَلا ذَاكرِ اللّهَ إلاّ قَلِيلا
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة : قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما وجدنا عليه آباءنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
فمعنى الآية : وإذا قيل لهؤلاء الكفار كلوا مما أحل الله لكم ودعوا خطوات الشيطان وطريقه واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه ، استكبروا عن الإذعان للحق ، وقالوا : بل نأتم بآبائنا فنتبع ما وجدناهم عليه من تحليل ما كانوا يحلون وتحريم ما كانوا يحرّمون قال الله تعالى ذكره : أوَلَوْ كانَ آباؤهُمْ يعني آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم لا يعقلون شيئا من دين الله وفرائضه وأمره ونهيه ، فيُتّبعون على ما سلكوا من الطريق ويؤتم بهم في أفعالهم ولا يهتدون لرشد فيهتدي بهم غيرهم ، ويقتدي بهم من طلب الدين ، وأراد الحق والصواب ؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار : فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئا ولا هم مصيبون حقا ولا مدركون رشدا ؟ وإنما يتبع المتبع ذا المعرفة بالشيء المستعمل له في نفسه ، فأما الجاهل فلا يتبعه فيما هو به جاهل إلا من لا عقل له ولا تمييز .
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } الضمير للناس ، وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم ، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون . { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات ، فجنحوا إلى التقليد . وقيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا وأعلم . وعلى هذا فيعم ما أنزل الله التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام . { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } الواو للحال ، أو العطف . والهمزة للرد والتعجيب . وجواب { لو } محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ، ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم . وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد . وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام ، فهو في الحقيقة ليس بتقليده بل اتباع لما أنزل الله .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ( 170 )
وقوله تعالى : { وإذا قيل لهم } يعني كفار العرب ، وقال ابن عباس : نزلت في اليهود ، وقال الطبري : الضمير في { لهم } عائد على الناس من قوله { يا أيها الناس كلوا } ، وقيل : هو عائد على { من } في قوله :{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً }( {[1541]} ) [ البقرة : 165 ] ، و { اتّبعوا } معناه بالعمل والقبول ، و { ما أنزل الله } هو القرآن والشرع ، و { ألفينا } معناه وجدنا ، قال الشاعر( {[1542]} ) : [ المتقارب ]
فَأَلْفَيْتَهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ . . . وَلاَ ذاكر اللَّهِ إلاّ قَليلا
والألف في قوله { أوَلو } للاستفهام ، والواو لعطف جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم .
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد( {[1543]} ) .