ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله ، وأنه ليس المقصود به ، سفك دماء الكفار ، وأخذ أموالهم ، ولكن المقصود به أن { يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } تعالى ، فيظهر دين الله [ تعالى ] ، على سائر الأديان ، ويدفع كل ما يعارضه ، من الشرك وغيره ، وهو المراد بالفتنة ، فإذا حصل هذا المقصود ، فلا قتل ولا قتال ،
{ فَإِنِ انْتَهَوْا } عن قتالكم عند المسجد الحرام { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } أي : فليس عليهم منكم اعتداء ، إلا من ظلم منهم ، فإنه يستحق المعاقبة ، بقدر ظلمه .
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله ، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام ، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات . وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه ، ويهابه أعداؤه ، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة ، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة . . والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة ؛ وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة :
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة ، وهي التي كانت تفتن الناس ، وتمنع أن يكون الدين لله ، فإن النص عام الدلالة ، مستمر التوجيه . والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين ، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله ، والاستجابة لها عند الاقتناع ، والاحتفاظ بها في أمان . والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة ؛ وتطلق الناس أحرارا من قهرها ، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله .
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة ، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل . . هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام ؛ وينشىء مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام . ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته ، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة ، فترجح كفة العقيدة . كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء " الإنسان " . . إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه ، ويؤذون مسلما بسبب إسلامه . أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله . . وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم ، وأن تقتلهم حيث وجدتهم ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . .
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما . وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى العصور . . وما يزال الأذي والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان . . وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور ، وفي أي شكل من الأشكال ، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل ؛ وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام ، فكان ميلادا جديدا للإنسان . .
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم ؛ وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم ؛ فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين :
( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية . وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين .
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك . قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسُّدي ، وزيد بن أسلم .
{ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } أي : يكونَ دينُ الله هو الظاهر [ العالي ]{[3396]} على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين : عن أبي موسى الأشعري ، قال : سُئِل النبي{[3397]} صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة ، ويقاتل حَميَّة ، ويقاتل رياء ، أيّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[3398]} . وفي الصحيحين : " أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله " {[3399]} وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } يقول : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ، وقتال المؤمنين ، فكُفُّوا عنهم ، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين ، وهذا معنى قول مجاهد : لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل . أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم ، وهو الشرك . فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة ، كقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . ولهذا قال عكرمة وقتادة : الظالم : الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله .
وقال البخاري : قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ]{[3400]} } الآية : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا{[3401]} : إن الناس صنعوا{[3402]} وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . قالا ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله . زاد عثمان ابن صالح{[3403]} عن ابن وهب قال : أخبرني فلان وحيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو المعافري{[3404]} أن بُكَير بن عبد الله حدثه ، عن نافع : أن رجلا أتى ابن عمر فقال [ له ]{[3405]} يا أبا عبد الرحمن ، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر{[3406]} عامًا ، وتترك الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال : يا ابن أخي ، بُني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله ، والصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت . قال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] ، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال : فعلنا على عهد النبي{[3407]} صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه : إما قتلوه أو عذبوه{[3408]} حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا {[3409]} عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، وأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون{[3410]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.