اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} (193)

قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يجوزُ في " حَتَّى " أن تكونَ بمعنى " كَيْ " وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ بمعنى " إِلَى " و " أَنْ " مضمرةٌ بعدَها في الحالين ، و " تَكُونَ " هنا تامةٌ ، و " فِتْنَةٌ " فاعلٌ بها ، وأمَّا { وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ } فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً ، وهو الظاهرُ ، ويتعلَّقُ " اللَّهِ " بها ، وأن تكونَ ناقصةً و " لِلَّهِ " الخبَر ؛ فيتعلَّق بمحذوف أي : كائناً لله تعالى .

فصل في المراد بالفتنة

قيل : المراد بالفتنة الشِّرك والكُفر ؛ قالوا : كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - بمكة ، حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء ؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم ، ويرجِعُوا كُفَّاراً ، فأنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية{[20]} ، والمعنى : قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم ؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ ، ولا تَقَعوا في الشِّرك { وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ } أي : الطَّاعة ، والعبادةُ للَّه وحده ؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] قال نافع : جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج ؟ فقال : يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي ؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى :

{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ – فيها { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] قال ألم يقُل الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً ، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه ، إما يقتُلُونه ، أو يُعَذِّبونه ، حى كثُر الإسلام ، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه ، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم ، حتَّى تكُون فتنَة ، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله{[21]} .

وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : هل تدري ما الفتنة ؟ ! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين ، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً ، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ .

فصل في معاني الفتنة في القرآن

قال أبو العبَّاس المُقِري : ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ : الأول : الفتنة : الكُفر ؛ قال تعالى : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } [ آل عمران : 7 ] يعني :طلب الكُفْر .

الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ }

[ المائدة : 49 ] .

الثالث : الفتنة : البلاء ؛ قال تعالى { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }

[ العنكبوت : 3 ] .

الرابع : الفتنةُ : الإحْرَاقُ ؛ قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ }

[ البروج : 10 ] ، أي : حَرَّقُوهم ؛ ومثله { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }

[ الذاريات : 13 ] .

الخامس : الفتنة الاعتذارُ قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ }

[ الأنعام : 23 ] .

السادس : الفتنة : القَتل ، قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ النساء : 101 ] ، أي : يَقْتُلُوكم .

السابع : الفتنَة : العذَابُ ؛ قال تعالى : { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ }

[ العنكبوت : 10 ] .

قوله " فَإِن انْتَهوا " ، أي : عن الكُفر وأسلَمُوا ، " فَلاَ عُدوَانَ " أي : فلا سبيل { إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } قاله ابن عبَّاس ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] ، أي : فلا سبيل{[22]} عليَّ ، وقال أهلُ المعاني العدوان : الظُّلم ، أي : فإنْ أسْلَمُوا ، فلا نهب ، ولا أسر ، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك ؛ قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً ، وهو في نفسه حقٌّ ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان ؛ على طريق المجاز ، والمقابلة ؛ لقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ }

[ البقرة : 194 ] ، و{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ]

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] .

وقيل : معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال ، كنتم أنْتُم ظالمينَ ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتدِي عليْكُم .

قوله : { إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } في محلِّ رفع خبر " لا " التبرئة ، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً ، تقديرُه : لا عُدْوَانَ على أحد ؛ فيكونُ { إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } بدلاً على إعادةِ العامل ، وهذا الجملةُ ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي ، فهي في معنى النَّهي ؛ لئلا يلزَم الخُلْفُ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء ، أبْرَزَتْهُ في صورةِ النفي المَحْضِ ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة ؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك ، وعكسُه في الإِثبات ، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء ، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر ؛ نحو : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .


[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.