ف { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ } أي : على خزائن جبايات الأرض وغلالها ، وكيلا حافظا مدبرا .
{ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي : حفيظ للذي أتولاه ، فلا يضيع منه شيء في غير محله ، وضابط للداخل والخارج ، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع ، والتصرف في جميع أنواع التصرفات ، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية ، وإنما هو رغبة منه في النفع العام ، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه .
فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض ، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها .
إنه لم يسجد شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت . ولم يقل له : عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين ، كما يقول المتملقون للطواغيت ! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك ، خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد ؛ وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من الموت وبلادا من الخراب ، ومجتمعا من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته ، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه :
( قال : اجعلني على خزائن الأرض . إني حفيظ عليم ) . .
والأزمة القادمة وسنوالرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها . وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء . ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها ، وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة :
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض . . إنما كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة ؛ وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات ، لا زرع فيها ولا ضرع . فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه . فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة . إنما هي تبعة يهرب منها الرجال ، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم ، والجوع كافر ، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون .
استطراد لتعليل طلبه الحكم وهنا تعرض شبهة . . أليس في قول يوسف - عليه السلام - : ( اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم ) . . أمران محظوران في النظام الإسلامي :
أولهما : طلب التولية ، وهو محظور بنص قول الرسول [ ص ] : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله [ أو حرص عليه ] " . . [ متفق عليه ] .
وثانيهما : تزكية النفس ، وهي محظورة بقوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم )?
ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله [ ص ] وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف - عليه السلام - والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة ، الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول . .
لا نريد أن نجيب بهذا ، وإن كان له وجه ، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا ، وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه ؛ وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها ، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص ، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها ، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود !
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ ! . . لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم ، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية . كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم ؛ إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ؛ كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي ؛ وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية .
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة ، دون إدراك لهاتين الحقيقتين ؛ ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام ، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها ؛ وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها . . الذين يفعلون ذلك ؛ ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ؛ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ . . هؤلاء ليسوا " فقهاء " ! وليس لهم " فقه " بطبيعة الفقه ! وبطبيعة هذا الدين أصلا !
إن " فقه الحركة " يختلف إختلافا أساسيا عن " فقه الأوراق " مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها " فقه الأوراق " !
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره " الواقع " الذي نزلت فيه النصوص ، وصيغت فيه الأحكام . ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره . فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته ، واختل تركيبه !
ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته ، يعيش في فراغ ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها . . إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ !
ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب ، وهو المأخوذ من قوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم )ومن قول رسول الله [ ص ] " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله " . .
لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ؛ ليطبق في هذا المجتمع ؛ وليعيش في هذا الوسط ؛ وليلبي حاجة ذلك المجتمع . وفق نشأته التاريخية ، ووفق تركيبه العضوي ، ووفق واقعه الذاتي . فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي . . وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي . وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشىءآثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي . . إسلامي في نشأته ، وفي تركيبه العضوي ، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة . . وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر " فراغا " بالقياس إلى ذلك الحكم ، لا يملك أن يعيش فيه ، ولا يصلح له ، ولا يصلحه كذلك !
. . ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي . وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني . .
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم ، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف ، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشوري أو للإمامة أو للإمارة . .
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم . كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم . وهؤلاء يجب أن يمنعوها !
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم ، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا
إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع . فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية . .
أولا : تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس ؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة . فمنهم من يفتن ويرتد ، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق . .
هؤلاء يفتح الله عليهم ، ويجعل منهم ستارا لقدره ، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره ، والتمكين في الأرض له ، ليقيم مملكة الله في الأرض - أي لينفذ حكم الله في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ؛ إنما هو نصر لدين الله ، وتمكين لربوبية الله في العباد .
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ؛ ولا عند حدود جنس معين ؛ ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة ! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا " الإنسان " . . كل الإنسان : في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ؛ وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت .
وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض ، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس ، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع ، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية ، الجميع يتعارفون عليها ، من البلاء في الجهاد ، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة . . وكلها قيم يحكم عليها الواقع ، وتبرزها الحركة ، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها . . ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم ، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة ، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار ، وأهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام . . في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا ، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية ! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة . . لن يوجد اليوم أو غدا ، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد ، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها . . وهذه نقطة البدء . . ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون ! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء . وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام ، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار ؛ حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق ، ويمكن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي . . ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية ، وفق الموازين والقيم الإيمانية . . ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها ، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم !
ولقد يقال بعد هذا : ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى . فإذا استقر المجتمع بعد ذلك ؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين ! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة . . يتحرك لتحرير " الإنسان " . كل الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ؛ وليرفعه عن العبودية للطواغيت ؛ بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة !
وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ؛ ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم . . ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه .
ثم يقال : ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ؛ ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية !
وهذا القول كذلك وهم ناشيء من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة . . إن المجتمع المسلم يكونأهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه ، والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم ؛ موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية ؛ فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية . . سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية . أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له . . يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة . والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة ! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم ، بتركيبه العضوي الحاضر ! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام . . إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم . فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع ، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام . مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من قتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة ، والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف . أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد ، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام ، ولا بالقيم الإيمانية . . وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام !
هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية ! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة ! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام ؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد ؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام ؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم ؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام ؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم ؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له ، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره ؟ . . .
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة !
أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة . . إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم ؛ وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر ، وبقيمه وأخلاقه الحاضرة !
هذه نقطة البدء في المتاهة . . ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ ، ويوغل في هذا الفراغ ، حتى يبعد في التيه ، وحتى يأخذه الدوار ! !
إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم ، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام . . لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظامالإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ؛ لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ ، ولم تتحرك في فراغ كذلك !
إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي . . ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه ؛ وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة .
إنه مجتمع جديد . . ومجتمع وليد . . ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير " الإنسان " ، . . كل الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت . . أيا كانت هذه الطواغيت . .
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة ، واختيار الإمام ، واختيار أهل الشورى . . . وما إليها . . . قضايا كثيرة تثار ، ويطرقها الباحثون في الإسلام . . في الفراغ . . في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه . . بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم . . وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته و أخلاقه ومشاعره وتصوراته . .
أعمال البنوك وأساسها الربوي . . شركات التأمين وقاعدتها الربوية . . تحديد النسل وما أدري ماذا ؟ ! إلى آخر هذه " المشكلات " التي يشغل " الباحثون " بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم . . إنهم جميعا - مع الأسف - يبدأون من نقطة البدء في المتاهة ! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر ؛ فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام !
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة !
إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم . إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا ، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية . . والعكس لا يمكن أن يكون أصلا !
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ، ولا يعيش في فراغ كذلك . . لا ينشأ في الأدمغة والأوراق ؛ إنما ينشأ في واقع الحياة . وليست أية حياة . إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد . . ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي ؛ فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق . . وعندئذ تختلف الأمور جدا . .
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل . . . الخ وقد لا يحتاج ! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته ، ولا حجمها ، ولا شكلها ، حتى نشرع لها سلفا ! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها . . ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها . ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك !
إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل ، الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه ! ولكن الأمر غير ذلك تماما . . إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشريةأن تطابق نفسها عليه ؛ وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة . . ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد . . هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد ، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت ، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم . . وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء . فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد ، ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد ، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق ، وحتى يمكن الله له في الأرض ، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي ، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه ، وتميزوا بقيمه . . وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها . . وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام ؛ وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات .
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها ، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة ، ثم بين كل أفراد الأمة ، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر . . إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية . . من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا ؟ ! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات ؟ ! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي ، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته ؟ !
وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا ؟ . . وهكذا . . وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها ، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي ، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه . . فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب ، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته !
إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية ؛ وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها ، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته ، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها .
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه . وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها . . حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره !
ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته ، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية ، والمجتمعات الجاهلية ، والحاجات الجاهلية . وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام ، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه . . أو بعبارة أخرى . . تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله ، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده ، واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به . وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها . وتنحية ربوبية العباد للعباد ، بتنحية حاكمية العباد للعباد ، وتشريع العباد للعباد .
وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول ، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود . وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو ، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا . .
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس ، باستنبات البذور في الهواء ، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء !
إن العمل في الحقل " الفكري " للفقه الإسلامي عمل مريح ! لأنه لاخطر فيه ! ولكنه ليس عملا للإسلام ؛ ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته ! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة ! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا !
إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول ، ومجرد خادم مطيع ، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه ، المتنكر له ، الشارد عنه . . الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته ؛ وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه . .
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ ، ولا تعمل في فراغ . . وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع . . ولن تنعكس الآية أبدا .
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ؛ والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا . ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي . ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على " الجاهز " والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام . وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية " الجاهزة " ! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة . . إلى آخر ما يخادع به بعضهم ، وينخدع به بعضهم الآخر !
كلا ! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله ؛ فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده . وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا . يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة . . ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة . وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك . . فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام . .
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض ؛ وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية .
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة . إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى ؛ وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ؛ ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية . ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق . . وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه ، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي ، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددةفي هذا المجتمع الوليد ، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها ، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا ، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين !
إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية . ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له ، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا . ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع . . ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ؛ ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية . .
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير ، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية . . هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي ، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين ؛ وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام ؛ وإن بقيت المآذن والمساجد ، والأدعية والشعائر ؛ تخدر مشاعر الباقين علي الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين ؛ وتوهمهم أنه لا يزال بخير ؛ وهو يمحى من الوجود محوا !
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر ، وقبل أن توجد المساجد . . وجد من يوم أن قيل للناس : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فعبدوه . ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر ، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت . إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزلت شرائع ! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع ؛ وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه ، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة . .
وهذا هو الطريق وحده ؛ وليس هنالك طريق آخر . .
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان ، وببيان أحكام الإسلام ! ولكن هذه إنما هي " الأماني " ! فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت ، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة . . والذي يبدؤه فرد ، ثم تتبعه طليعة ، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكن لها في الأرض . . ثم . . يدخل الناس في دين الله أفواجا . . ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . .
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف - عليه السلام .
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية . كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي . وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه . وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىَ خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
يقول جلّ ثناؤه : قال يوسف للملك : اجعلني على خزائن أرضك ، وهي جمع خِزانة ، والألف واللام دخلتا في الأرض خلفا من الإضافة ، كما قال الشاعر .
*** والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبِ ***
وهذا من يوسف صلوات الله عليه مسألة منه للملك أن يوليه أمر طعام بلده وخراجها ، والقيام بأسباب بلده ، ففعل ذلك الملك به فيما بلغني . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ قال : كان لفرعون خزائن غير الطعام ، قال : فأسلم سلطانه كله إليه ، وجعل القضاء إليه ، أمره وقضاؤه نافذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ قال : على حفظ الطعام .
وقوله : { إنّي حَفيظٌ عَلِيمٌ } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إني حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما ولّيتني . قال : : قد فعلت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : حفيظ لما وليتُ ، عليم بأمره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي في قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني المجاعة .
وقال آخرون : إني حافظ للحساب ، عليم بالألسن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن الأشجعي : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ : حافظ للحساب ، عليم بالألسن .
وأولى القولين عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما أوليتني ، لأن ذلك عقيب قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض ، فكان إعلامه بأن عنده خبرة في ذلك ، وكفايته إياه ، أشبه من إعلامه حفظه الحساب ومعرفته بالألسن .
وجملة { قال اجعلني على خزائن الأرض } حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات .
و { على } هنا للاستعلاء المجازي ، وهو التصرف والتمكن ، أي اجعلني متصرّفاً في خزائن الأرض .
و { خزائن } جمع خِزانة بكسر الخاء ، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، وهي الأرض المعهودة لهم ، أي أرض مصر .
والمراد من { خزائن الأرض } خزائن كانت موجودة ، وهي خزائن الأموال ؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعداداً للسنوات المعبر عنها بقوله : { مما تحصنون } [ سورة يوسف : 48 ] .
واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح ، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه ولا عَرَضاً من متاع الدنيا ، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها .
وعلّل طلبه ذلك بقوله : إني حفيظ عليم } المفيد تعليل ما قبلها لوقوع ( إنّ ) في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما ، وهما : الحفظ لما يليه ، والعلم بتدبير ما يتولاه ، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما ، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما ، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان ، وصفة العلم المحققّ للمكانة . وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحِسبَة .
وشبه ابن عطية بمقام يوسفَ عليه السلام هذا مقام أبي بكر رضي الله عنه في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين . قلت : وهو تشبيه رشيق ، إذ كلاهما صدّيق .
وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة ، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة . وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر ، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام . فلا يعارض هذا ما جاء في « صحيح مسلم » عن عبد الرحمان بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتَها عن مسألة وُكلتَ إليها وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعنت عليها " لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله ولا راجحاً على جميعهم .
ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يُوَلّ ضاعت الحقوق . قال المازري : « يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن عَلم أنه إن لم يلِه ضاعت الحقوق أو وليه مَن لا يحلّ أن يولى . وكذلك إن كان وَلِيَه من لا تحلّ توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله » .
وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري .
وقال عياض في كتاب الإمارة ، أي من « شرح صحيح مسلم » ، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة ، وظاهر كلام ابن رشد في « المقدمات » حِرمة الطلب مطلقاً . قال ابن مرزوق : وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريباً منه للغزالي في « الوجيز » .