وإذا كان الناس بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم ، فإن الكون كله - فيما عداهم - يتجه بفطرته إلى خالقه ، يخضع لناموسه ، ويسجد لوجهه :
( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ، والشمس والقمر والنجوم ، والجبال والشجر والدواب ، وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب . ومن يهن الله فما له من مكرم . إن الله يفعل ما يشاء ) . .
ويتدبر القلب هذا النص ، فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك . وإذا حشد من الأفلاك والأجرام . مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم . وإذا حشد من الجبال والشجر والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان . . إذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله ، وتتجه إليه وحده دون سواه . تتجه إليه وحده في وحدة واتساق . إلا ذلك الإنسان فهو وحده الذي يتفرق : ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب )فيبدو هذا الإنسان عجيبا في ذلك الموكب المتناسق .
وهنا يقرر أن من يحق عليه العذاب فقد حق عليه الهوان : ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) . . فلا كرامة إلا بإكرام الله ، ولا عزة إلا بعزة الله . وقد ذل وهان من دان لغير الديان .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد بقلبك ، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم ، والشمس والقمر والنجوم في السماء ، والجبال ، والشجر ، والدوابّ في الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس وحين تزول إذا تحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّجُومُ والجِبالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال : ظلال هذا كله .
وأما سجود الشمس والقمر والنجوم ، فإنه كما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا عوف ، قال : سمعت أبا العالية الرياحي يقول : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين وزاد محمد : حتى يرجع إلى مطلعه .
وقوله : وكَثيرٌ منَ النّاسِ يقول : ويسجد كثير من بني آدم ، وهم المؤمنون بالله . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ قال : المؤمنون .
وقوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يقول تعالى ذكره : وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به ، وهو مع ذلك يسجد لله ظله . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله .
فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد ، وقع قوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ بالعطف على قوله : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً في عداد من وصفه الله بالسجود له ، ويكون قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ من صلة «كثير » ، ولو كان «الكثير » الثاني ممن لم يدخل في عداد من وصفه بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ : وكثير أتى السجود ، لأن قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يدلّ على معصية الله وإبائه السجود ، فاستحقّ بذلك العذاب .
يقول تعالى ذكره : ومن يهنه الله من خلقه فَبُشْقِه ، فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بيد الله ، يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء ، ويُشقي من أراد ويسعد من أحبّ .
وقوله : إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالى ذكره : إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الخلق خلقه والأمر أمره . لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه : «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ » بمعنى : فما من إكرام ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
{ ألم تر } تنبيه رؤية القلب ، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها ، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف { من في السماوات } الملائكة ، { ومن في الأرض } من عبد من الشر ، { والشمس } كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس ، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس ، وكانت تميم تعبد الدبران ، وكانت لخم تعبد المشتري ، وكانت طيِّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري ، وكانت أسد تعبد عطارد ، وكانت ربيعة تعبد المرزم ، { والجبال والشجر } منها النار وأصنام الحجارة والخشب ، { والدواب } فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه ، و «السجود » في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجداً للحوافر »{[8327]} . وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف ، وقال مجاهد : سجود هذه الأشياء هو بظلالها ، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها . ع : هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة ، وقوله تعالى : { وكثير حق عليه العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، أي { وكثير حق عليه العذاب } يسجد ، أي كراهية وعلى رغمه ، إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ونحو ذلك ، قاله مجاهد ، وقال : سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله { وكثير من الناس } لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك { ومن يهن الله } الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرِم » بكسر الراء ، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل ، وقرأ الجمهور «والدوابّ » مشددة الباء ، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة : [ البسيط ]
كأن إبريقهم ظبي على شرف . . . مفدم بسبا الكتان ملثوم{[8328]}
أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله : [ الكامل ]
حتى إذا ما لم أجد غير الشر . . . كنت أمرأً من مالك بن جعفر{[8329]}