ولما بين مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ }{[241]}
أي : { آمَنُوا ْ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا . { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ } الناشئة عن الإيمان ؟
وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب ، الذي على القلب ، والذي على اللسان ، والذي على بقية الجوارح . كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه ، وتكميله للإيمان والعمل الصالح .
ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل ، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته ، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله .
ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله : { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ } فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة ، والمناظر العجيبة ، والأزواج الحسنة ، والقصور ، والغرف المزخرفة ، والأشجار المتدلية ، والفواكه المستغربة ، والأصوات الشجية ، والنعم السابغة ، وتزاور الإخوان ، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان ، وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه ، والعيون برؤيته ، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور ، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور ، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم ، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون ، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات ، ولهذا قال : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ }
فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون ، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا ، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه ، وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه .
وعاقبة من يفتلون من حبالته ، لأنهم آمنوا بالله حقا . والمؤمنون بالله حقا في نجوة من هذا الشيطان لأنه - لعنة الله عليه - وهو يستأذن في إغواء الضالين ، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين . فهو إزاءهم ضعيف ضعيف ؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين :
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، وعد الله حقا ، ومن أصدق من الله قيلا ؟ ) . .
فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان . . وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله . . وعد الله :
والصدق المطلق في قول الله هنا ؛ يقابل الغرور الخادع ، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك ! وشتان بين من يثق بوعد الله ، ومن يثق بتغرير الشيطان !
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ } : والذين صّدقوا الله ورسوله ، وأقّروا له بالواحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوّة وعملوا الصالحات ، يقول : وأدّوا فرائض الله التي فرضها عليهم . { سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحْتِها الأنْهارُ } يقوله : سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله جزاء بما عملوا في الدنيا من الصالحات جنات : يعني بساتين تجري من تحتها الأنهار . { خالدِينَ فيها أبَدا } يقول : باقين في هذه الجنات التي وصفها أبدا دائما . وقوله { وَعْدَ اللّهِ حَقّا } يعين : عدة من الله لهم ذلك في الدنيا حقا ، يقينا صادقا ، لا كَعِدَة الشيطان الكاذبة التي هي غرور من وعدها من أوليائه ، ولكن عِدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ولا يخلف وعده . وإنما وصف جلّ ثناؤه وعده بالصدق والحقّ في هذه لما سبق من خبره جلّ ثناؤه ، عن قول الشيطان الذي قصه في قوله ، وقال : { لاَءَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضا وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ووَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } ثم قال جلّ ثناؤه : { يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا } ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وعدا منه حقا ، لا كوعد الشيطان الذي وصف صفته . فوصف جلّ ثناؤه الوعدين والواعدين وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما تنبيها منه جلّ ثناؤه خلقه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والعطب ، لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته ، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه . ثم قال لهم جلّ ثناؤه : { وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } يقول : ومن أصدق أيها الناس من الله قيلاً : أي لا أحد أصدق منه قيلاً ، فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وتكفرون به ، وتخالفون أمره ، وأنتم تعلمون أن لا أحد أصدق منه قيلاً ، وتعملون بما يأمركم به الشيطان ، رجاء لإدراك ما يعدكم من عِداته الكاذبة وأمانيه الباطلة ، وقد علمتم أن عداته غرور لا صحة لها ولا حقيقة ، وتتخذونه وليا من دون الله وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، فتكونوا له أولياء ؟ ومعنى القِيل والقول : واحد .
ولما أخبر تعالى عن الكفار الذين يتخذون الشيطان ولياً ، وأعلم بغرور وعد الشيطان لهم ، وأعلم بصيور{[4291]} أمرهم وأنه إلى جهنم ، فاقتضى ذلك كله التحذير ، أعقب ذلك - عز وجل{[4292]} - بالترغيب في ذكر حالة المؤمنين ، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى النعيم المقيم ، وأعلم بصحة وعده تعالى لهم ، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله { ومن أصدق من الله قيلاً } والقيل والقول واحد ، ونصبه على التمييز ، وقرأت فرقة «سندخلهم » بالنون وقرأت فرقة «سيدخلهم » بالياء ، و { وعد الله } نصب على المصدر . و { حقا } مصدر أيضاً مؤكد لما قبله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.