{ 77 - 78 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
يأمر تعالى ، عباده المؤمنين بالصلاة ، وخص منها الركوع والسجود ، لفضلهما وركنيتهما ، وعبادته التي هي قرة العيون ، وسلوة القلب المحزون ، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد ، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة ، ويأمرهم بفعل الخير عموما .
وعلق تعالى الفلاح على هذه الأمور فقال : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بالمطلوب المرغوب ، وتنجون من المكروه المرهوب ، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق ، والسعي في نفع عبيده ، فمن وفق لذلك ، فله القدح المعلى ، من السعادة والنجاح والفلاح .
والآن وقد كشف عما في منسك المشركين من سخف وضعف ؛ وعما في عبادتهم من قصور وجهل . . الآن يتوجه بالخطاب إلى الأمة المسلمة ، لتنهض بتكاليف دعوتها ، وتستقيم على نهجها العريق القويم :
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ، واعبدوا ربكم ، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ؛ وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم إبراهيم . هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس . فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، واعتصموا بالله هو مولاكم ، فنعم المولى ونعم النصير ) . .
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها ، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة ، وحركة ظاهرة في التعبير ، ترسمها مشهدا شاخصا ، وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور .
ويثني بالأمر العام بالعبادة . وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيء ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه !
ويختم بفعل الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة . .
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة : ( وجاهدوا في الله حق جهاده )
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ارْكَعُوا لله في صلاتكم وَاسْجُدُوا له فيها وَاعْبُدُوا رَبّكُمْ يقول : وذلوا لربكم ، واخضعوا له بالطاعة ، وَافْعَلُوا الخَيْرَ الذي أمركم ربكم بفعله لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : لتفلحوا بذلك ، فتدركوا به طَلِباتكم عند ربكم .
لما كان خطاب المشركين فاتحاً لهذه السورة وشاغلاً لمعظمها عدَا ما وقع اعتراضاً في خلال ذلك ، فقد خوطب المشركون ب { يا أيها الناس } أربع مرات ، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم ، خُتمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يُصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم .
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال .
والمراد بالركوع والسجود الصلوات . وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية . وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله { واعبدوا ربكم } تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين .
والمراد بالعبادة : ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج .
وقوله { وافعلوا الخير } أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة ، وحسن المعاملة كصلة الرّحِم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وسائر مكارم الأخلاق ، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى .
والرجاء المستفاد من { لعلكم تفلحون } مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى ، فهذه حقيقة الرجاء . وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تُحِيل الشكّ على الله تعالى .
واعلم أن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } إلى { لعلكم تفلحون } اختلف الأيمّة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن . والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في « الموطأ » و« المدوّنة » ، وأبي حنيفة ، والثوري .
وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة ، وروى الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وفقهاء المدينة ، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه . وقال ابن عبد البر في « الكافي » : « ومن أهل المدينة قديماً وحديثاً من يرى السجود في الثانية من الحجّ قال : وقد رواه ابن وهب عن مالك » . وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصّل منها شيء » ، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب ، وكذلك ابن رشد في « المقدمات » : فما نسبه ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب .
وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مِشْرَح
عن عقبة بن عامر قال : " قلت يا رسول الله فُضلت سورة الحجّ لأنّ فيها سجدتين ؟ قال : نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " اه . قال أبو عيسى : هذا حديث إسناده ليس بالقويّ اه ، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعّفه يحيى بن مَعين ، وقال مسلم : تركه وكيع ، والقطّان ، وابن مهدي . وقال أحمد : احترقت كتبه فمن روى عنه قديماً ( أي قبل احتراق كتِبه ) قُبل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله "ارْكَعُوا "لله في صلاتكم "وَاسْجُدُوا" له فيها "وَاعْبُدُوا رَبّكُمْ" يقول: وذلوا لربكم، واخضعوا له بالطاعة، "وَافْعَلُوا الخَيْرَ" الذي أمركم ربكم بفعله "لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ" يقول: لتفلحوا بذلك، فتدركوا به طَلِباتكم عند ربكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وافعلوا الخير" والخير: النفع الذي يجل موقعه، وتعم السلامة به، ونقيضه الشر، وقد أمر الله بفعل الخير، ففعله طاعة له.
"لعلكم تفلحون" أي افعلوا الخير لكي تفوزوا بثواب الجنة وتتخلصوا من عذاب النار. وقيل معناه افعلوه على رجاء الصلاح منكم بالدوام على أفعال الخير واجتناب المعاصي والفوز بالثواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الركوعُ والسجودُ والعبادةُ كُلُّها بمعنى الصلاة؛ لأنَّ الصلاةَ تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولكنْ فَرقَها في الذكر مراعاةً لقلبِكَ من الخوف عند الأمر بالصلاة؛ فَقَسَّمها ليكونَ مع كلِّ لفظٍ ومعنى نوعٌ من التخفيف والترفيه، ولقلوبِ أهل المعرفةِ في كل لفظةٍ راحة جديدة. ويقال لَوَّنَ عليهم العبادةَ، وأَمَرَهم بها، ثم جميعُها عبادةٌ واحدةٌ، ووَعَدَ عليها من الثوابِ الكثيرِ ما تقْصُرُ عن عِلْمه البصائر. ويقال عَلِمَ أَنَّ الأحبابَ يُحِبُّون سماعَ كلامِه فَطَّولَ عليهم القولَ إلى آخر الآية؛ ليزدادوا عند سماع ذلك أُنساً على أُنسٍ، ورَوْحَاً على روْح، ومُعَادُ خطابِ الأحبابِ هو رَوْحُ رُوحهم وكمالُ راحتهم. ثم قال بعد هذا: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} فأدخل فيه جميعَ أنواع القُرَبِ.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وافعلوا الخير) أي: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وسائر وجوه البر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك، فمن ثمة دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحجّ والغزو، ثم عمّ بالحثّ على سائر الخيرات. وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود...
وأبو حنيفة وأصحابه رضي لله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة، لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع، فدلّ ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وخص «الركوع والسجود» بالذكر تشريفاً للصلاة... {وافعلوا الخير}، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع،... {لعلكم} ترجٍّ في حق المؤمنين كقوله {لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]
و «الفلاح» في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها: تعيين المأمور. وثانيها: أقسام المأمور به. وثالثها: ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر. ورابعها: تأكيد ذلك التكليف.
أما النوع الأول: وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} وفيه قولان: أحدهما: المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمنا أو كافرا، لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك. والثاني: أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولا: فلأن اللفظ صريح فيه، وأما ثانيا: فلأن قوله بعد ذلك {هو اجتباكم} وقوله: {هو سماكم المسلمين} وقوله: {وتكونوا شهداء على الناس} كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين. أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجبا على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين؟ لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها. ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريف لهم في ذلك الإقرار والتخصيص.
أما النوع الثاني: وهو المأمور به فقد ذكر الله أمورا أربعة. الأول: الصلاة وهو المراد من قوله: {اركعوا واسجدوا} وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جاريا مجرى ذكر الصلاة. وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية. الثاني: قوله: {واعبدوا ربكم} وذكروا فيه وجوها.
أحدها: اعبدوه ولا تعبدوا غيره.
وثانيها: واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات.
وثالثها: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود.
الثالث: قوله تعالى: {وافعلوا الخير} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق.والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير، لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله، ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس، فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات.
أما قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية،فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى، والعواقب أيضا مستورة «وكل ميسر لما خلق له».
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
هذه الآية الكريمةَ عَامَّةٌ في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفةُ والشفقة على خَلْقِ اللّه، ومُوَاساةُ الفقراء وأهلِ الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثَوْباً عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللّهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وأَيُّما مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللّهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وأَيُّمَا مُسْلِمٍ سقى مُسْلِماً عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرَّحِيقِ المَخْتُوم)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده، وأنه قد أحكم شرعه، وحفظ رسله، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ دين شاء، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته، أقبل إليه مقبلون، خاطب المقبلين إلى دينه، وهم الخلص من الناس، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي قالوا: آمنا {اركعوا} تصديقاً لقولكم {واسجدوا} أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين، فإنها رأس العبادة، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما، لأنهما -لمخالفتهما الهيئات المعتادة- هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح -لما غلب عليه من العتو- بعض الهيئات الدالة على ذل.
ولما خص أشرف العبادة، عم بقوله: {واعبدوا} أي بأنواع العبادة {ربكم} المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية. ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها... فقال: {وافعلوا الخير} أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق... {لعلكم تفلحون} أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يأمر تعالى، عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوع والسجود، لفضلهما وركنيتهما، وعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عموما. وعلق تعالى الفلاح على هذه الأمور فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن وقد كشف عما في منسك المشركين من سخف وضعف؛ وعما في عبادتهم من قصور وجهل.. الآن يتوجه بالخطاب إلى الأمة المسلمة، لتنهض بتكاليف دعوتها، وتستقيم على نهجها العريق القويم:... وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها، ويقرر مكانها الذي قدره لها، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله. إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود. وهما ركنا الصلاة البارزان. ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة، وحركة ظاهرة في التعبير، ترسمها مشهدا شاخصا، وهيئة منظورة. لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور. ويثني بالأمر العام بالعبادة. وهي أشمل من الصلاة. فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله. فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله. حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات. وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات، ولم يتحول في طبيعتها شيء، ولكن تحول القصد منها والاتجاه! ويختم بفعل الخير عامة، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة.. يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح. فهذه هي أسباب الفلاح.. العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه. فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة: (وجاهدوا في الله حق جهاده)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان خطاب المشركين فاتحاً لهذه السورة وشاغلاً لمعظمها عدَا ما وقع اعتراضاً في خلال ذلك، فقد خوطب المشركون ب {يا أيها الناس} أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم، خُتمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يُصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم. وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال. والمراد بالركوع والسجود الصلوات. وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله {واعبدوا ربكم} تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين. والمراد بالعبادة: ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج...
والرجاء المستفاد من {لعلكم تفلحون} مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى، فهذه حقيقة الرجاء. وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تُحِيل الشكّ على الله تعالى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه، وليس لكل الناس، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها، وهو الصلاة، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى الله واتجاه إليه سبحانه، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى الله وحده، ولأنها امتلاء النفس بذكر الله تعالى، ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل، وضراعة صادقة، واستحضار النفس لكل معانيها، لا تقع من الإنسان المنهيات،... وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها. وقال تعالى: {لعلكم تفلحون}، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس أنفعهم للناس) والرجاء من العباد لا من الله، لأن الله تعالى لا يرجو بل يعلم وينفذ. إنه عليم حكيم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
هتاف ربّاني بالمؤمنين بأن يعبدوا الله ويسجدوا ويركعوا له ويفعلوا الخير. ففي ذلك فوزهم ونجاحهم.
وأمر لهم بأن يجاهدوا كذلك في سبيل الله ودينه حق الجهاد.
- وتنويه بالمنزلة والعناية الكبيرتين اللتين اختصّهم بهما: فقد اجتابهم واصطفاهم وهداهم إلى دينه القويم. ولم يجعل عليهم فيه حرجا ولا إعناتاً. وهو ملّة أبيهم إبراهيم وقد سمّاهم المسلمين من قبل وفي القرآن الآن. وأعدّهم بذلك كله ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا. وهذه مكانة خطيرة وعناية كريمة تقتضيان منهم الشكر والاجتهاد في أداء ما ترتّب عليهم من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسّك بأهداب دين الله والاعتصام بحبله. وهو مولاهم ونعم هو من مولى ونصير لهم...
فجاءت هاتان الآيتان على الأثر تختتمان الكلام بالالتفات إلى المسلمين فتهتفان بهم بما تهتفان، وتعظانهم بما تعظان وتبثّان فيهم روح الطمأنينة والسكينة والاغتباط، وتنوّهان بالملّة السمحاء التي هداهم الله إليها وبالعناية الكبرى التي خصّهم بها وتنبّهانهم إلى ما أوجبه عليهم من الجهاد في سبيل دينه وما أعدّهم له من رفعة الشأن بين الأمم والملل إذا هم اعتصموا بالله وتمسّكوا بدينهم وجاهدوا في سبيله حق الجهاد...
ومع خصوصية الآيتين الزمنية على ضوء هذه الشروح وصلتها بالسياق السابق فإنهما احتوتا بأسلوبهما القوي ومضامينهما الواعظة المنبّهة المنوّهة تلقينات خطيرة تظل مستمرة التلقين والفيض والمدد والنفحات للمسلمين عامة والعرب خاصة بحيث يمكن أن يقال: إنها قد جعلت للعرب المسلمين في المجتمع الإسلامي شأنا خاصا وحملتهم مهمة كبرى ونبّهتهم إلى أن الله قد اجتباهم وجعلهم وسطا وعدولا وهداة ليرشدوا الناس ويهدوهم بهدى دينه الذي ارتضاه لهم والذي رشّحه ليكون دين الإنسانية عامة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووجه كتاب الله الخطاب إلى رسوله والمومنين يحدد لهم معالم الرسالة الإسلامية، ويضع أيديهم على دعائمها الأساسية، التي بدونها لا ينتظم للمسلمين وجود ولا بقاء،... وهذه الأوامر الإلهية تتضمن ثلاثة إمور جوهرية: الأمر الأول: أن تكون طاعة الله والصلة به قائمة في كل وقت {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم}. الأمر الثاني: أن يكون فعل الخير بجميع أصنافه باسطا رواقه في كل مكان {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.
النداء في ضرب المثل السابق كان للناس كافة، لأنه يريد أن يلفت عباد الأصنام إلى هذا المثل، ويسمعهم إياه، أما هنا فالكلام عن منهج ودستور موجه، خاصة إلى الذين آمنوا، لأنه لا يكلف بالحكم إلا من آمن به، أما من كفر فليس أهلا لحمل هذه الأمانة، لذلك تركه ولم ينظم له حركة حياته...
المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظلوا على إيمانكم في الحكم الجديد، واستمروا على إيمانكم، لذلك إذا طلبت شيئا ممن هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه...
ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلاة: {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم}، لقد جاء الرسل من عند الله بتكاليف كثيرة، لكن خص هنا الصلاة لأنها التكليف الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، أما بقية التكاليف فهي موسمية، فالصوم شهر في العام كله، والحج مرة في العمر كله لمن استطاع، والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول الحول. إذن: تختلف فريضة الصلاة عن باقي الفرائض، لذلك خصها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قوله:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"... {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف، لكن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالخير- إذن- كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع، لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيما يتعاون ويتساند لا يتعاند، فإن جاء الأمر على هذه الصورة سعد المجتمع بأسره... فالمعنى: {وافعلوا الخير} أي: الذي لا يأتي منه فساد أبدا، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون، فإن كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمت الأهواء وتعاندت، والخير: كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى...
{لعلكم تفلحون} لكن، أين سيكون هذا الفلاح: في الدنيا أم في الآخرة؟. الفلاح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير، فالفلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أي مجتمع يتحرك أفراده في اتجاه الخير لهم وللغير، مجتمع يعمل بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "وعندها لن ترى في المجتمع تزاحما ولا تنافرا ولا ظلما ولا رشوة.. الخ هذا الفلاح في الدنيا، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة.
إذن: لا تظنوا التكاليف الشرعية عبئا عليكم، لأنها في صالحكم في الدنيا، وبها فلاح دنياكم، ثم يكون ثوابها في الآخرة محض الفضل من الله.
وقد نبهنا النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هذه المسألة فقال:"لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته "ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى: {ويزيدهم من فضله (173)} [النساء].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
عناصر حركة الإيمان إنه النداء الأخير يوجهه الله سبحانه إلى المؤمنين في نهاية هذه السورة، ليؤكد عناصر حركة الإيمان الثابتة في حياتهم، وليثير في وعيهم التكريم الإلهيّ لهم في ما أنزله عليهم من رسالة، وفي ما أراده لهم من دور... {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الذين يريد الله لهم أن يعيشوا الإيمان فكراً وممارسةً وموقف حياة، فلا يبقى إيمانهم مجرد خواطر تعيش في العقل، ومشاعر تتحرك في الإحساس، وتقاليد تنطلق في الممارسة.. {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} فإن الركوع والسجود يمثلان انحناء الإرادة الإنسانية بما توحي به من انحناء روحي أمام الله حتى الانسحاق، {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} فإن العبادة هي خط تتمثل فيه الطاعة الإنسانية لله عبر تنفيذ أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك يتجسد سرّ العبودية أمام حقيقة الألوهية حركة في خط المسؤولية، {وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ} في كل مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وفي مختلف النشاطات الإنسانية، فذلك يفتح قلب الإنسان وروحه على الجانب الحلو من الحياة، ويمنح الحياة تقدماً وعمقاً وحيويّةً، ويربط العنصر الإنسانيّ الطيب بحركة الواقع.. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، لأن طريق الفلاح هو خط الخير المنطلق من عبودية الله والمتحرك في خط المسؤولية في الحياة.