تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

وقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

أي : إن كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب بينكم ويحصل به التوثق { فرهان مقبوضة } أي : يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه ، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق ، ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به ، كان القول قول المرتهن ، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في توثق صاحب الحق ، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود ، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا ، وإنما نص الله على السفر ، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه ، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه ، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه { وليتق الله ربه } في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان { ولا تكتموا الشهادة } لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها ، فكتمها من أعظم الذنوب ، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب ، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق ، ولهذا قال تعالى : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم } وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم ، لاشتمالها على العدل والمصلحة ، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات ، وانتظام أمر المعاش ، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

282

ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين ، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة ، فلم يذكرها هناك في النص العام . . ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا . فتيسيرا للتعامل ، مع ضمان الوفاء ، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين :

( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) .

وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله . فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله ، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها ، والمحافظة الكاملة عليها :

( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) .

والمدين مؤتمن على الدين ، والدائن مؤتمن على الرهن ؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه . والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي . وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء . . وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان . ونحن لا نرى هذا ، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر . والإئتمان خاص بهذه الحالة . والدائن والمدين كلاهما - في هذه الحالة - مؤتمن .

وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى ، يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه :

( ولا تكتموا الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) .

ويتكىء التعبير هنا على القلب . فينسب إليه الإثم . تنسيقا بين الاضمار للإثم ، والكتمان للشهادة . فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب . ويعقب عليه بتهديد ملفوف . فليس هناك خاف على الله .

( والله بما تعملون عليم ) .

وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته القراء في الأمصار جميعا «كاتبا » ، بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى «فرهان مقبوضة » . وقرأ جماعة من المتقدمين : «ولم تجدوا كتابا » ، بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل ، إما بتعذر الدواة والصحيفة ، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة .

والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : { وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا } بمعنى : من يكتب ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين ، وإن كنتم أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم ، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ليكون ثقة لكم بأموالكم . ذكر من قال ما قلنا في ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرُهُنٌ مَقْبُوضةٌ } فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا } يقول : كاتبا يكتب لكم ، «فرهان مقبوضة » .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : ما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد عليه وذلك في المقام ، فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا ( كاتبا ) ، فرهان مقبوضة .

ذكر قول من تأوّل ذلك على القراءة التي حكيناها :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس : فإن لم تجدوا كتابا ، يعني بالكتاب : الكاتب والصحيفة والدواة والقلم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبي ، عن ابن عباس أنه قرأ : «فإن لم تجدوا كتابا » ، قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، كان يقرؤها : «فإن لم تجدوا كتابا » ، ويقول : ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد ، ونحو هذا من القول .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد : «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كِتابا » يقول : مدادا ، يقرؤها كذلك ، يقول : فإن لم تجدوا مدادا ، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ، { فرهان مقبوضة } ، قال : لا يكون الرهن إلا في السفر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحبحاب ، قال : إن أبا العالية كان يقرؤها : «فإن لم تجدوا كتابا » ، قال أبو العالية : توجد الدواة ولا توجد الصحيفة .

واختلف القراء في قراءة قوله : { فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } بمعنى جماع رهن ، كما الكباش جماع كبش ، والبغال جماع بغل ، والنعال جماع نعل . وقرأ ذلك جماعة آخرون : «فَرُهُنٌ مقبوضة » على معنى جمع رِهَان ورُهْن جمع الجمع ، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع رهن مثل سَقْف وسُقُف . وقرأه آخرون : { فرُهْنٌ } مخففة الهاء ، على معنى جماع رَهْن ، كما تجمع السقف سُقْفا¹ قالوا : ولا نعلم اسما على فعل يجمع على فُعُل وفُعْل إلا الرّهْنْ والرّهْن والسّقُف والسّقْف .

والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } لأن ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على فَعْل ، كما يقال حَبْل وحبال وكَعْب وكعاب ، ونحو ذلك من الأسماء . فأما جمع الفَعْل على الفُعُل أو الفُعْل فشاذّ قليل إنما جاء في أحرف يسيرة ، وقيل سَقْف وسُقُف وَسُقْف ، وقَلْب وقُلُب وقُلْب من قلب النخل ، وجَدّ وجُدّ . للجد الذي هو بمعنى الحظّ . وأما ما جاء من جمع فَعْل على فُعْل فَثّطّ وثُطّ ، ووَرْد ووُرْد ، وخَوْد وخُود . وإنما دعا الذي قرأ ذلك : «فَرُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ » إلى قراءته فيما أظن كذلك مع شذوذه في جمع فَعْل ، أنه وجد الرّهان مستعملة في رِهان الخيل ، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبِس برهان الخيل ، الذي هو بغير معنى الرّهان ، الذي هو جمع رَهْن ، ووجد الرّهُن مقولاً في جمع رَهْن ، كما قال قعنب :

بانَتْ سُعادُ وأمْسَى دُوَنها عَدَنُ *** وَغَلِقَتْ عِنْدَها مِنْ قَلْبِكَ الرّهُنُ

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن كان المدين أمينا عند ربّ المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته ، فَلْيَتّقِ الله المدين ربه ، يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده ، أو يلطّ دونه ، أو يحاول الذهاب به ، فيتعرّض من عقوبة الله ما لا قبل له به ، وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه إليه . وقد ذكرنا قول من قال هذا الحكم من الله عزّ وجلّ ناسخ الأحكام التي في الآية قبلها من أمر الله عزّ وجلّ بالشهود والكتاب ، وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وقد :

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فَإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُوءَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } إنما يعني بذلك في السفر ، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا ، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا .

وهذا الذي قاله الضحاك ، من أنه ليس لربّ الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلاً وإن كانا في سفر ، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل .

وأما ما قاله من الأمر في الرهن أيضا كذلك مثل الائتمان في أنه ليس لربّ الحقّ الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلاً في حضر أو سفر فإنه قول لا معنى له لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : «اشترى طعاما نَساءً ، ورهن به درعا له » . فجائز للرجل أن يرهن بما عليه ، ويرتهن بماله من حقّ في السفر والحضر ، لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن معلوما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبا ولا شهيدا ، لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد ، غير أنهما إذا تبايعا برهن ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلاً إلى كاتب وشهيد ، وكان البيع أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن ، وإنما يجوز ترك الكاتب والإشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكْتُمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .

وهذا خطاب من الله عزّ وجلّ للشهود الذين أمر المستدين وربّ المال بإشهادهم ، فقال لهم : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، ولا تكتموا أيها الشهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكام ، كما شهدتم على ما شهدتم عليه¹ ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه . ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم ، أو ذي سلطان ، فقال : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا } ، يعني ومن يكتم شهادته ، { فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } ، يقول : فاجر قلبه ، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله . كما :

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلاَ تَكْتُموا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ } فلا يحلّ لأحد أن يكتم شهادة هي عنده ، وإن كانت على نفسه والوالدين ، ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : { ومَنْ يَكْتُمْها فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ } يقول : فاجر قلبه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنّةَ وَمأوُاهُ النّارُ } وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله عزّ وجلّ يقول : { وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استخبر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها ، فأخبره بها ، ولا تقل : أخبرْ بها عند الأمير أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي .

وأما قوله : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فإنه يعني بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها ، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ، { عليمٌ } يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم ، إما خيرا ، وإما شرّا على قدر استحقاقكم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

{ وإن كنتم على سفر } أي مسافرين . { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فالذي يستوثق به رهان ، أو فعليكم رهان ، أو فليؤخذ رهان . وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإرتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعا من شعير أخذه لأهله ، بل لإقامة التوثق للإرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها . والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " فرهن " كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون : وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف . { فإن أمن بعضكم بعضا } أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان . { فليؤد الذي ائتمن أمانته } أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به . وقرئ " الذي ايتمن " بقلب الهمزة ياء ، و " الذي أتمن " بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم . { وليتق الله ربه } في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات . { ولا تكتموا الشهادة } أيها الشهود ، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم . { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم . والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره : العين زانية والأذن زانية . أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه ، وقرئ { قلبه } بالنصب كحسن وجهه . { والله بما تعملون عليم } تهديد .