أي : { قُلْ ْ } يا أيها الرسول { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ْ } ملزما لهم ، إن دين الإسلام هو الدين الحق ، وإن قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ْ } أي : هل لنا عندكم من العيب إلا إيماننا بالله ، وبكتبه السابقة واللاحقة ، وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين ، وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا الإيمان فإنه كافر فاسق ؟
فهل تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين ؟ "
ومع هذا فأكثركم فاسقون ، أي : خارجون عن طاعة الله ، متجرئون على معاصيه ، فأولى لكم -أيها الفاسقون- السكوت ، فلو كان عيبكم وأنتم سالمون من الفسق ، وهيهات ذلك - لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع فسقكم .
وحين تتم النداءات الثلاثة للذين آمنوا ، يتوجه الخطاب إلى الرسول [ ص ] ليواجه أهل الكتاب ، فيسألهم : ماذا ينقمون من الجماعة المسلمة ؟ وهل ينقمون منها إلا الإيمان بالله ، وما أنزل إلى أهل الكتاب ؛ وما أنزله الله للمسلمين بعد أهل الكتاب . . ؟ هل ينقمون إلا أن المسلمين يؤمنون ، وأنهم هم - أهل الكتاب - أكثرهم فاسقون ؟ وهي مواجهة مخجلة . ولكنها كذلك كاشفة وحاسمة ومحددة لأصل العداوة ومفرق الطريق :
( قل : يا أهل الكتاب ، هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل من قبل ، وأن أكثركم فاسقون ؟ قل : هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ من لعنه الله ، وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت . . أولئك شر مكانا ، وأضل عن سواء السبيل ) . .
إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب ، هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم ؛ وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها .
وهو من ناحية سؤال استنكاري ، لاستنكار هذا الواقع منهم ، واستنكار البواعث الدافعة عليه . . وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين ، وتنفير لهم من موالاة القوم ، وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير .
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول [ ص ] وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي - إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ؛ وما أنزله الله إليهم من قرآن ؛ وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب . .
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون ! لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى . ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ؛ وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم - لا ما ابتدعوه وحرفوه - ولا يؤمنون بالرسول الأخير ، وهو مصدق لما بين يديه ؛ معظم لرسل الله أجمعين .
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ؛ التي لم تضع أوزارها قط ، ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ؛ منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ؛ وتميزت لهم شخصية ؛ وأصبح لهم وجود مستقل ؛ ناشى ء من دينهم المستقل ، وتصورهم المستقل ، ونظامهم المستقل ، في ظل منهج الله الفريد .
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم - قبل كل شيء - مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ؛ فيصبحوا غير مسلمين . . ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ؛ ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين !
والله - سبحانه - يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة ، وهو يقول لرسوله [ ص ] في السورة الأخرى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) . . ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم :
( قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ؛ وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ؟ ) . .
وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين ، هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب ، وكثيرون ممن يسمون أنفسهم " مسلمين " . . باسم تعاون " المتدينين " في وجه المادية والإلحاد كما يقولون !
أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها ، لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم . ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي ، فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي . . ولم يكن بد لهؤلاء - بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة ، وفي حرب التبشير السافرة كذلك - أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير ، فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين ، أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت ! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ! ثم تنور العالم و " تقدم " فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة . . وأنما الصراع اليوم على المادة ! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب ! وإذن فما يجوز للمسلمين - أو ورثة المسلمين - أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين !
وحين يطمئن أهل الكتاب - وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين - إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ؛ وحين تتميع القضية في ضمائرهم ؛ فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ؛ وللعقيدة . . الغضبة التي لم يقفوا لها يوما . . ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير . . ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها . بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ؛ ويغلبون في معركة " المادة " بعدما يغلبون في معركة " العقيدة " . . فهما قريب من قريب . .
وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي ، ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية ، يقولون القول نفسه . . لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود . . وهؤلاء يقولون عن " الحروب الصليبية " ذاتها : إنها لم تكن " صليبية " ! ! ! ويقولون عن " المسلمين " الذين خاضوها تحت راية العقيدة : إنهم لم يكونوا " مسلمين " وإنما هم كانوا " قوميين " !
وفريق ثالث مستغفل مخدوع ؛ يناديه أحفاد " الصليبين " في الغرب المستعمر : أن تعالوا إلينا . تعالوا نجتمع في ولاء ؛ لندفع عن " الدين " غائلة " الملحدين " ! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ؛ ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ؛ صفا واحدا ، حينما كانت المواجهة للمسلمين ! على مدار القرون ! وما يزالون ! وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام ، ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ؛ وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم ! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ؛ وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين - في الوقت ذاته - ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون ! وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين . . حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم . .
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق ، فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن " الدين " إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا - لا استثناء فيها - كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات ، وهو تعليم لا مواربة فيه ، ولا مجال للحيدة عنه ، وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول !
إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ؛ وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك . ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ؛ والتقريرات الواعية عن بواعثهم ، والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية ، وخطة التنظيم ، التي تحرم التناصر والموالاة ، لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية ، وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه - مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها - إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين ، ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين . . كما يقول رب العالمين . .
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ؛ يجزئونه ويمزقونه ، فيأخذون منه ما يشاءون - مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها - ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب !
ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله ، في هذه القضية ، على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين ! وكلام الله - سبحانه - في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين . .
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى - بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل - أن بقية السبب :
فهذا الفسق هو شطر الباعث ! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم . . وهي قاعدة نفسية واقعية ؛ تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة . . إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم . . إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه . إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه . . ومن ثم يكرهه وينقم عليه . يكره استقامته وينقم منه التزامه ؛ ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ؛ أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده !
إنها قاعدة مطردة ، تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة ، إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة . إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة . . والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار ، وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين ، وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين . . هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر ، وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل ، وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق ، وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين .
وعلم الله - سبحانه - أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف . وأنها معركة لا خيار فيها ، ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل . لأن الباطل سيهاجمه ، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه . .
وغفلة - أي غفلة - أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ؛ وأنهم يملكون تجنب المعركة ؛ وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة ! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ؛ من أن يستسلموا للوهم والخديعة . . وهم يومئذ مأكولون مأكولون !
{ قُلْ يََأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى : يا أهل الكتاب ، هل تكرهون منا أو تجدون علينا حتى تستهزءوا بديننا إذا أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوا ولعبا ، إلاّ أنْ آمَنّا بالله يقول : إلاّ أن صدقنا وأقررنا بالله فوحّدناه ، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب ، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا . وأنّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يقول : إلاّ أن أكثركم مخالفون أمر الله ، خارجون عن طاعته ، تكذبون عليه . والعرب تقول : نَقَمْتُ عليك كذا أنْقِمُ وبه قرأ القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم ونَقِمْتُ أنقَم لغتان ، ولا نعلم قارئا قرأ بها بمعنى وجدت وكرهت ، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ما نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيّةَ إلاّ ***أنّهُمْ يَحْلُمُونَ إنْ غَضِبُوا
وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب قوم من اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازَر ، وزيد وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ قال : «أُوْمِنُ باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ إلى إبْرَاهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ، وَما أُوتِيَ النّبِيّونَ مِنْ رَبّهِمْ ، لا نُفَرّق بينَ أحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم : قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأنّ أكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ .
عطفا بها على «أنْ » التي في قوله : إلاّ أنْ آمَنّا باللّهِ لأن معنى الكلام : هل تنقمون منا إلاّ إيماننا بالله وفسقكم .