تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

{ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }

يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن ، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين .

وقوله : { إِلَّا مَن ظُلِمَ } أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى{[250]}  منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ، ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى ، كما قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }

{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح ، أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن . { عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم .


[250]:- في ب: ويشتكي.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } .

اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء .

وقرأه بعضهم : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » بفتح الظاء . ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحب الله تعالى ذكره أنيجهر أحدنا بالدعاء على أحد ، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِم يقول : إلا من ظُبم فيدعو على ظالمه ، فإن الله جلّ ثناؤه لا يكره له ذلك ، لأنه قد رخص له في ذلك . ذكر مَن قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لا يُحبّ الله الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ يقول : لا يحبّ الله أنيدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه ، وذلك قوله : إلاّ مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا يُحِبّ ا ، الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلَمَ فإنه يحبّ الجهر بالسوء من القول .

حدثنا بشر ين معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ الله سَمِعَا عَليما عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : ثناهشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : هو الرجل يظلم الرجل ، فلا يدْعُ عليه ، ولكن ليقل : اللهمّ أعنيعليه اللهمّ استخرج لي حقي اللهمّ حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء .

ف «مَنْ » على قول ابن عباس هذا في موضع رفع ، لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء ، واستثنى المظلوم منه ، فكان معنى الكلام على قوله : لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء من القول ، إلا المظلوم فلا حرج عليهخ في الجهر به . وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية ، وذلك أن «مَنُ » لا يجوز أن يكون رفعا عندهم باجهر ، لأنها في صلة «أنْ » ، وأنْ لم ينله الجحد فال يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال : لا يعجبني أن يقوم إلا ريد . وقد يحتمل أن تكون «مَنْ » نصبا على تأويل قول ابن عباس ، ويكون قوله : لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا ، ثم قيل : إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرد عليه ، فيكون «مَنْ » استثناء من الغعل ، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه ، كما قال جلّ ثناؤه : لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ .

إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ وكقولهم : إني لأكره الخصومة والمراء ، اللهمّ إلا رجلاً يريد الله بذلك . ولم يذكر قبله شيء من الأسماء . و«مَنْ » على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام ، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل الله خيرا فعل كذا وكذا .

وقال آخرون : بل معنىذلك : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيع ، عن مجاهد ، قال : هو الرجل ينزل بالرجل ، فلا يحسن ضيافته ، فيخرج من عنده ، فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : إلا من أثَر ما قيل له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيع ، عن مجاهد : لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : هو الضيف المحوّل رحله ، فإنه يجهر لصاحيه بالسوء من القول .

وقال آخرون : عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه ، فينال من الذب لم يَقْرِه . ذكر من قال لك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيع ، عن مجاهد في قوله : إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : من ظُلم فانتصر يجهر بالسوء .

حدثني المثنى ، قال : ثن أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيع ، مثله .

وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيع ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد . وعن حميد الأعرج ، عن مجاهد : لا يُهِبّ الله الجَهْرَ بالسّوء مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ . قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه ، فقد رخص الله له أنَ يقول فيه .

حدثنيأحمد بن حماد الدّولابيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيع ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد : لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه ، رخص الله له أن يقول فيهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ . . . الاَية ، قال : ضاف رجل رجلاً ، فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : ضفت فلانا فلم يودّ حقّ ضيافتي ، فذلك جهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِمَ حين لم يودّ إليه ضيافته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : إلا من ظلم فانتصر يجهر بسوء . قال مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلم يضفه ، فنزلت إلاّ مَنْ ظُلِمَ ذكر أنه لم يضفه ، لا يزيد على ذلك .

وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من ظُلم فانتصر من ظالمه ، فإن الله قد أذن له في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ يقول : إن الله لا يحبّ الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق ، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم ، فليس عليه جناح .

ف «مَنْ » على هذه الأقوال التي ذكرناها سوى قول ابن عباس في موضع نصب على انقطاعه من الأول ، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع فكان معنى الكلام على هذه الأقوال سوى قول ابن عباس : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، ولكن من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه أو ينتصر ممن ظلمه .

وقرأ ذلك آخرون بفتح الظاء : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » وتأوّلوه : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظَلم ، فلا بأس أن يُجهر له بالسوء من القول . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان أبي يقرأ : «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » قال ابن زيد : يقول : إلا من أقام على ذلك النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع . قال : وهذه مثل : وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ أن تسميه بالفسق بَعْدَ الإيمانِ بعد إذ كان مؤمنا ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك العمل الذي قيل له ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال : هو أشرّ ممن قال ذلك له .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » فقرأ : إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ حتى بلغ : وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الُمؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيما ثم قال بعد ما قال : هم في الدرك الأسفل من النار . ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ وكانَ اللّهُ شاكِرا عَليما «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » قال : لا يحبّ الله أن يقول لهذا : ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت ؟ من بعد ما تاب ، «إلاّ مَنْ ظَلَم » ، إلا من أقام على النفاق . قال : وكأن أبي يقول ذلك له ويقرؤها : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » .

«مَنْ » على هذا التأويل نصب لتعلقه بالجهر . وتأويل الكلام على قول قائل هذا القول . لا يحبّ الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » منهم ، فأقام على نفاقه فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : إلاّ مَنْ ظُلِمَ بضمّ الظاء ، لإجماع الحجة من القرّاء وأهل التأويل على صحتها ، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح . فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فالصواب في تأويل ذلك : لا يحبّ الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِمَ بمعنى : إلا من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه . وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه ، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس ، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له . وإذ كان ذلك كذلك ، ف «مَنْ » في موضع نصب ، لأنه منقطع عما قبله ، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها ، فهو نظير قول : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إلاّ مَنْ تَوَلىّ وكَفَرَ .

وأما قوله : وكانَ اللّهُ سَمِيعا عَلِيما فإنه يعني : وكان الله سميعا لمِا يجهرون به من سوء القول لمن يجهرون له به ، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم ، عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به ، فلا تجهرون له به ، محصٍ كلّ ذلك عليكم حتى يجازيَكم على ذلك كله جزاءكم المسيء باساءته والمحسن بإحسانه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد ، فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك ، و { الجهر بالسوء من القول } لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك ، أما أنه يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه . و { الجهر } : كشف الشيء ، ومنه الجهرة في قول الله تعالى { أرنا الله جهرة }{[4352]} ومنه قولهم : جهرت البئر ، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها ، واختلف القراء في قوله تعالى { إلا من ظلم } وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام ، وقرأ ابن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومسلم بن يسار وغيرهم «إلا من ظَلَم » بفتح الظاء واللام ، واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء ، فقالت فرقة : المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول «إلا من ظُلم » فلا يكره له الجهر به ، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ، فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعنّي عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حلْ بيني وبين ما يريد من ظلمي ، وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظُلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو أحسن له ، وقال مجاهد وغيره : هو في الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول ، فقد رخص له أن يقول فيه : وفي هذا نزلت الآية ، ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الُظلامة في ضيافة وغيرها ، وقال ابن عباس والسدي : لا بأس لمن ظَلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ، ويجهر له بالسوء من القول .

قال القاضي رحمه الله : فهذه الأقوال على أربع مراتب :

قول الحسن_ دعاء في المدافعة ، وتلك أقل منازل السوء من القول .

وقول ابن عباس_ الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء .

وقول مجاهد_ ذكر الظلامة والظلم .

وقول السدي_ الانتصار بما يوازي الظلامة .

وقال ابن المستنير : { إلا من ظلم } معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفراً أو نحوه ، فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، واختلف المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام ، فقال ابن زيد : المعنى «إلا من ظلم » في قول أو فعل ، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه ، قال : وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك جهراً بالسوء من القول . ثم قال لهم بعد ذلك { ما يفعل الله بعذابكم } [ النساء : 147 ] الآية ، على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : «ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم » في إقامته على النفاق ، فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل ؟ ونحو هذا من الأقوال ، وقال قوم معنى الكلام : «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول » ثم استثنى استثناء منقطعاً ، تقديره : لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب { من } يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من ( أحد ) المقدر{[4353]} ، و «سميع عليم » : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء وبالظلم أيضاً ، فإنه يعلمه ويجازي عليه .


[4352]:- من الآية (153) من سورة (النساء)، ومثلها قوله تعالى في الآية (55) من سورة (البقرة): {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}، وقوله تعالى في الآية (47) من سورة (الأنعام): {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون}.
[4353]:- ناقشه أبو حيان في ذلك، واثبت أنه لا يجوز. (البحر المحيط 3/ 384)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً ، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله ، وبغضاً للملموزين به ، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن ، ونَهى المسلمين عن القعود معهم ، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق ، فيجاهِروهم بقول السوء ، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء ، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه .

روى البخاري : أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل : أين مالك بن الدّخْشُم ، فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله ، فقال رسول الله : " لا تقل ذلك ألا تراه قد قال : لا إله إلاّ الله ، يريد بذلك وجهَ الله ، فقال : فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين " . الحديثَ . فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق ، لملازمته للمنافقين ، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله . فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً . وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين .

وجملة { لا يحبّ } مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه : الجهر بالسوء من القول ، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى ، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن ، واستنكار القبيح ، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية ، وهما الرضا والغضب .

وصيغة { لا يحبّ } ، بحسب قواعد الأصول ، صيغة نفي الإذن . والأصل فيه التحريم . وهذا المراد هنا ؛ لأنّ { لا يحبّ } يفيد معنى يكره ، وهو يرجع إلى معنى النهي . وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " . فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه .

والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ . وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً .

واستثنى { مَن ظُلم } فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول . والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي ، المفيد للعموم ، إذ التقدير : لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء ، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً ، أي : إلاّ جَهْرَ من ظلم ، والمقصود ظاهر ، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز .

ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّىء ليشفي غضبه ، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد ، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به ، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول } . وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول ، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه ، أو شكاية ظلمه : أن يقول له : ظلمتني ، أو أنت ظالم ؛ وأن يقول للناس : إنَّه ظالم . ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن ، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف ، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة ، قائمة في الشريعة . فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه ؛ ومنه ما في الحديث " مَطْلُ الغنيّ ظلم " أي فللممطول أن يقول : فلان مماطل وظالم . وفي الحديث " لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته " . وجملة { وكان الله سميعاً عليماً } عطف على { لا يحبّ } ، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها ، عليم بالمقاصد والأمور كلّها ، فذِكْرُ « عليماً » بعد « سميعاً » لقصد التعميم في العلم ، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم .