{ 161 - 165 } { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : قل لهم : إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم ، هو دين الله الذي ابتعثه به ، وذلك الحنيفية المسلمة ، فوفقني له . دِينا قِيَما يقول : مستقيما . ملّةَ إبْرَاهِيمَ يقول : دين إبراهيم . حَنِيفا يقول : مستقيما . وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ يقول : وما كان من المشركين بالله ، يعني : إبراهيم صلوات الله عليه ، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دِينا قِيَما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض البصريين : «دِينا قَيّما » بفتح القاف وتشديد الياء إلحاقا منهم ذلك بقول الله : ذلكَ الدّينُ القَيّمُ وبقوله : ذلكَ دِينُ القَيّمَةِ . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفيين : دِينا قِيَما بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها ، وقالوا : القَيّمُ والقِيَم بمعنى واحد ، وهم لغتان معناهما : الدين المستقيم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب مصيب ، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما . ونصب قوله : دِينا على المصدر من معنى قوله : إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وذلك أن المعنى هداني ربي إلى دين قويم ، فاهتديت له دينا قيما ، فالدين منصوب من المحذوف الذي هو اهتديت الذي ناب عنه قوله : إنني هَدَاني رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وقال بعض نحويي البصرة : إنما نصب ذلك لأنه لما قال : هَدَانِي رَبي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قد أخبر أنه عرف شيئا ، فقال : «دِينا قَيّما » كأنه قال : عرفت دينا قيما ملة إبراهيم . وأما معنى الحنيف ، فقد بينته في مكانه في سورة البقرة بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته ونبذ ما سواها من أضاليلهم ، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة ، و { هداني } معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي . والرب المالك ، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه ، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به . وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب . و «الصراط » الطريق و { ديناً } منصوب ب { هداني } المقدر الذي يدل عليه { هداني } الأول ، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى . إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر ، فهو فعل متردد وقيل نصب { ديناً } فعل مضمر تقديره عرفني ديناً . وقيل تقديره فاتبعوا ديناً فالزموا ديناً ، وقيل نصب على البدل من { صراط } على الموضع ، أن تقديره هداني ربي صراطاً مستقيماً ، و { قيماً } نعت للدين ، ومعناه مستقيماً معتدلاً . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قَيِّماً » بفتح القاف وكسر الياء وشدها . وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قِيَماً » بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل ، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوماً كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور ، و { ملة } بدل من الدين ، والملة الشريعة و { حنيفاً } نصب على الحال من { إبراهيم } ، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل .
وكقوله { فمن خاف من موص حنفاً }{[5178]} على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك . وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه السلام : «الحنيفية السمحة »{[5179]} و «الدين الحنيف » ونحوه ، وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة{[5180]} وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له . { وما كان من المشركين } نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم}، يعني الإسلام، {دينا قيما} مستقيما لا عوج فيه، {ملة إبراهيم حنيفا}، يعني مخلصا، {وما كان} إبراهيم {من المشركين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام "إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "يقول: قل لهم: إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له.
"ملّةَ إبْرَاهِيمَ" يقول: دين إبراهيم "حَنِيفا" يقول: مستقيما. "وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ" يقول: وما كان من المشركين بالله، يعني: إبراهيم صلوات الله عليه، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام...
{دِيناَ قِيَماً} يعني مستقيماً؛ ووصفه بأنه ملة إبراهيم، والحنيف المخلص لعبادة الله تعالى، يروى ذلك عن الحسن. وقيل: أصله المَيْلُ، من قولهم: رجل أَحْنَفُ إذا كان مائل القدم بإقبال كل واحدة منهما على الأخرى خِلْقَةً لا من عارض، فسُمّي المائل إلى الإسلامِ حَنِيفاً لأنه لا رجوع معه. وقيل: أصله الاستقامة، وإنما جاء أحنف للمائل القدم على التفاؤل كما قيل للدِيغ سليم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى سواه...
ومن سلك إلى مخلوق سبيلاً وأبرم فيهم تأميلاً أو قدَّم عليهم تعويلاً، فقد استشعر تسويلاً، وجُرِّعَ تضليلاً... والحنيف المائل إلى الحق، الزائغ عن الباطل، الحائل عن ضد الحقيقة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته ونبذ ما سواها من أضاليلهم، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تضمن ما مضى تصحيح التوحيد بالأدلة القاطعة وتحقيق أمر القضاء والقدرة وإبطال جميع أديان الضلال ووصفها بتفرق أهلها الدال على بطلانها واعوجاجها، وختم بهذا التحذير الذي لا شيء أقوم منه ولا أعدل، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعلان بأمره وأن يصف دينه الذي شرعه له وهداه إليه بما فيه من المحاسن تحبيباً فيه وحثاً عليه ولأن ذلك من نتيجة هذه السورة فقال: {قل} وأكد بالإتيان بالنونين فقال: {إنني هداني} أي بياناً وتوفيقاً {ربي} أي المحسن إليّ بكل خير لا سيما هذا الذي أوحاه إليّ وأنزله عليّ {إلى صراط مستقيم} أي طريق واسع بين، ثم مدحه بقوله: {ديناً قيماً} أي بالغ الاعتدال والاستقامة ثابتها... وزاده مدحاً بقوله مذكراً لهم -لتقليدهم الآباء- بأنه دين أبيهم الأعظم: {ملة إبراهيم} والملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظُلَم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا -أفاده الحرالي. ولذلك قال: {حنيفاً} أي ليناً هيناً سهلاً قابلاً للاستقامة لكونه ميالاً مع الدليل غير جاف ولا كز واقف مع التقليد عمي عن نور الدليل- كما تقدم ذلك في البقرة، وهو معنى قوله: {وما} أي والحال أنه ما {كان من المشركين} أي الجامدين مع أوهامهم في ادعاء شريك لله مع رؤيتهم له في كونه لا يضر ولا ينفع ولا يصلح لشركة آدمي فضلاً عن غيره بوجه، لا ينقادون لدليل ولا يصغون إلى قيل، فكان هذا مدحاً لهذا الدين الذي هدى إليه صلى الله عليه وسلم وبياناً لأنه الذي اختاره سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام رجوعاً إلى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74] الذي بنيت السورة في الحقيقة عليه، وألقيت أزمة أطرافها إليه، وترغيباً في هذا الدين لأن جميع المخالفين يتشبثون بأذيال إبراهيم عليه السلام: العرب وأهل الكتابين بنسبة الأبوة، والمجوس بنسبة البلد والأخوة، وأشار بذلك إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم فهم ما حاج به أبوه إبراهيم عليه السلام قومه وقبله، فلم ينسب كغيره إلى جمود ولا عناد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قد ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآيات الكريمة الجامعة فكانت خير الخواتيم في براعة المقطع. ذلك بأننا بينا في مواضع من تفسيرها أنها أجمع السور لأصول الدين وإقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، ولإبطال عقائد الشرك وتقاليده وخرافات أهله، وهذه الخاتمة مناسبة لجملة السورة في أسلوبها ومعانيها. وذلك بأنه كان مما امتازت به السورة كثرة بدء الآيات فيها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة "قل "لأنها لتبليغ الدعوة، كما كثر فيها حكاية أقوال أهل الشرك والكفر مبدوءة بكلمة (وقالوا) مع التعقيب عليها بكشف الشبهة وإقامة الحجة ترى بعد هذا وذاك في آخر العشر الأول وأول العشر الثاني منها فجاءت هذه الخاتمة بالأمر الأخير له صلى الله عليه وسلم بأنه يقول لهم القول الجامع لجملة ما قبله، وهو أن ما فصل في السورة هو صراط الله المستقيم ودينه القيم الذي هو ملة إبراهيم، دون ما يدعيه العرب المشركون، وأهل الكتاب المحرفون، وأنه عليه صلوات الله وسلامه إنما يدعو إليه وهو معتصم به قولا وعملا وإيمانا وتسليما على أكمل وجهه، فهو أول المسلمين، وأخلص الموحدين، وأخشع العابدين، بما جاء به من تجديد الدين وإكماله، بعد تحريفه وانحراف جميع الأمم عن صراطه وأن توحيد الألوهية الذي يخالفنا فيه المشركون مبني على توحيد الربوبية الذي هم به مؤمنون {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (يوسف 106) وأن الجزاء عند الله على الأعمال مبني على عدم انتفاع أحد أو مؤاخذته بعمل غيره وأن المرجع إلى الله تعالى وحده، وأن له تعالى سننا في استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم وأنه هو الذي يتولى عقاب المسيئين والرحمة للمحسنين وكل ذلك مما يهدم أساس الشرك الذي هو الاتكال على الوسطاء بين الله والناس في غفران ذنوبهم وقضاء حاجهم.
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي قل أيها الرسول الخاتم للنبيين لقومك وسائر أمة الدعوة وهم جميع البشر: إنني أرشدني ربي وأوصلني بما أوحاه إلي بفضله واختصاصه في هذه السورة وكذا غيرها إلى طريق مستقيم يصل سالكه إلى سعادة الدارين الدنيا والآخرة من غير عائق ولا تأخير لأنه لا عوج فيه ولا اشتباه، كما قال في آية أخرى: {ويهديك صراطا مستقيما} (الفتح 2) وهو الذي أدعوكم إلى طلبه منه تعالى في مناجاتكم إياه: {أهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة 6).
{دِينًا قِيَمًا} أي أن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي يصلح ويقوم به أمر الناس في المعاش والمعاد...
{مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي أعني أو الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا أي مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل والعوج والضلال مستقيما عليه، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإن الحنيفية تنافي الشرك، ففيه تكذيب لهم في دعواهم أنهم على ملة إبراهيم وقد وصف إبراهيم بالحنيف في سورة البقرة (2: 135) وسورة آل عمران وسورة النحل (16: 120، 123) وسورة الأنعام (6: 80) وهذه الآية التي نفسرها وفي كل آية من هذه الآيات وصف بأنه لم يكن من المشركين وجاء في سورة النساء: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} (النساء 124) ولكن قيل إن حنيفا هنا حال ممن أسلم وجهه لله وقيل من إبراهيم.
هذا الدين دين التوحيد والاستقامة والإخلاص لله وحده في العبادة هو الدين الذي بعث الله به جميع رسله وقرره في جميع كتبه، وإنما عبر عنه بملة إبراهيم لأنه عليه الصلاة والسلام وعلى آله هو النبي المرسل الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه وحسن هديه العرب ومن حولهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى وكل يدعي الاهتداء بهداه، وقد كانت قريش ومن وافقها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم ولذلك وصل وصفه بالحنيف بنفي الشرك عنه، وكذا فعل أهل الكتاب بادعاء أتباعه وأتباع موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكذا يفعل أهل البدع الشركية من المنتمين إلى الإسلام، لأن الشرك والكفر يسري إلى أكثر الناس من حيث لا يشعرون أنه شرك وكفر وقد بينا هذا الاحتراس في تفسير {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} (آل عمران 67).
وقد قال تعالى في إرشاد هذه الأمة: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} (الحج 28- 29) ومثله في أواخر سورة يونس: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين} (يونس 105) وفي الروم: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم 29- 31) فهذا بمعنى ما نحن بصدد تفسيره في جملته وسياقه كما نبهنا إليه في الكلام على التفرق في الدين وما هو ببعيد.
وأما أمره تعالى لخاتم رسله بالإخبار بأن ما هداه الله تعالى إليه من الدين القيم هو ملة إبراهيم فهو بمعنى أمره باتباع ملة إبراهيم في سورة النحل حيث قال: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وأنه في الآخرة من الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (النحل 120- 123) فحكمة كل من الأخبار والأمر استمالة العرب ثم أهل الكتاب إلى الإسلام ببيان أن أساسه وقواعد عقائده ودعائم فضائله هي ما كان عليه إبراهيم المتفق على هداه وجلالته، وكذا سائر رسل الله تعالى، وإنما تختلف الأحكام العملية من العبادات والمعاملات المدنية والسياسية كما تقدم بيانه في قوله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة 50) وقد ذكرنا الآية بطولها لمناسبة آخرها لخاتمة هذه السورة التي هي أول ما نزل من السور الطول والمائدة آخر ما نزل منها. وإذ علمنا حكمة الإخبار والأمر بإتباع ملة إبراهيم فلا مجال بعد لتوهم أن إبراهيم أفضل، ولا أن ملته أكمل، إذ ليس هذا بمناف ولا بمعارض لنص آية إكمال الدين، وإتمام النعمة على العالمين، على لسان خاتم النبيين، المبعوث رحمة للخلق أجمعين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ختام السورة -وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية- تجيء التسبيحة الندية الرخية، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب؛ وفي تقرير كذلك حاسم فاصل.. ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية: (قل).. (قل).. (قل).. ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد.. توحيد الصراط والملة. توحيد المتجه والحركة. توحيد الإله والرب. توحيد العبودية والعبادة.. مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته...
(قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين). إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر، ويشي بالثقة، ويفيض باليقين.. اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية، والثقة بالصلة الهادية.. صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية.. والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي لا التواء فيه ولا عوج: (دينا قيماً).. وهو دين الله القديم منذ إبراهيم. أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب: (ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين، وما تخلّلها، إلى فذلكة ما أُمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشّأن، غَلقاً لباب المجادلة مع المعرضين، وإعلاناً بأنّه قد تقلّد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنَّه ثابت على ما جاءهم به، وأنّ إعراضهم لا يزلزله عن الحقّ.
وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه، ثمّ أخذ يبين ما رَضِيه لِنفسه وما قَرّ عليه قَراره، علم السّامع أنَّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة، ولذلك غيّر الأسلوب. فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويهاً بالمقول.
وقوله: {إنني هداني ربي} متصل بقوله: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153] الذي بيّنه بقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92] فزاده بياناً بقوله هذا: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم}، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنَّما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم بهدي من الله، وأنَّه جعله ديناً قيّماً على قواعد ملّة إبراهيم عليه السّلام، إلاّ أنَّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة. وافتُتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلى الله عليه وسلم للَّه تعالى، وتعريضاً بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم.
وقوله: {هداني ربي إلى صراط مستقيم} تمثيليّة: شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود.
والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق، يقال: هو هاد خِرّيت، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة. وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم، والصّراطُ للدين القويم، فكان تشبيهاً مركّباً قابلاً للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة.
ووُصف الصّراط بالمستقيم، أي الذي لا خطَأ فيه ولا فساد، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنَّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيَّر في أمره...
والدّين تقدّم عند قوله تعالى: {إن الدِّين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس.
والقَيِّم بفتح القاف وتشديد الياء...وصف مبالغة قَائم بمعنى معتدل غير معوج، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز، لأنّ المرء إذا قام اعتدلت قامته، فيلزم الاعتدال القيام.
والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في القيام بالأمر، وهو مرادف القيّوم، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوّم عليه، فالإسلام قيّم بالأمّة وحاجتها، يقال: فلان قيّم على كذا، بمعنى مدبّر له ومصلح، ومنه وصف الله تعالى بالقيُّوم، وهذا أحسن لأنّ فيه زيادة على مفاد مستقيم...
والملّة، الدّين: فهي مرادفة الدين... و {ملّة} فِعْلة بمعنى المفعول، أي المملول، من أمللت الكتاب إذا لقَّنت الكاتب ما يَكتب، وكان حقّها أن لا تقترن بهاء التّأنيث لأنّ زنة (فِعْل) بمعنى المفعول تلزم التّذكير، كالذِّبح، إلاّ أنَّهم قرنوها بهاء التّأنيث لما صيّروها اسماً للدّين، ولذلك قال الرّاغب: الملّة كالدّين، ثمّ قال: « والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلاّ إلى النَّبيء الذي تسند إليه نحو ملّة إبراهيم، ملّة آبائي، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة، ولا تستعمل إلاّ في جملة الشّريعة دون آحادها لا يقال الصّلاة ملّة الله» أي ويقال: الصّلاةُ دين الله ذلك أنَّه يراعى في لفظ الملّة أنَّها مملول من الله فهي تضاف للّذي أُمِلَّت عليه.
ومعنى كون الإسلام ملّةَ إبراهيم: أنَّه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي: التّوحيد، ومسايرة الفطرة، والشّكر، والسّماحة، وإعلان الحقّ، وقد بيَّنتُ ذلك عند قوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً} في سورة آل عمران (67).
والحنيف: المُجانب للباطل، فهو بمعنى المهتدي، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قل بل مِلَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} في سورة البقرة (135)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(قل إنني هداني ربي الى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) أمر الله تعالى نبيه أن يبين أنه يسلك الخط المستقيم الذي هو الدين القيم، وأنه ملة إبراهيم (قل) يا محمد ايها النبي الأمي العربي (إنني هداني ربي الى صراط مستقيم).
كان ذلك الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ليخاطب به العرب مخبرا عن نفسه الكريمة، وعمن اتبعه من المؤمنين هداني ربي الذي خلقني وربني، وقام على كل ما أقوم عليه فهو القوام على كل نفس والقائم على كل شيء فوصف الربوبية في هذا المقام للدلالة على أن الهداية منسوبة إلى الخالق المكون فهي هداية حق لا ضلال فيها، ولا أوهام ولا أهواء عند الله سبحانه وتعالى وقد أكد أن الهداية من رب الوجود ب (إن) والهداية إلى دين اتصف بأمور ثلاثة.
أولها: انه صراط مستقيم أي طريق مستقيم موصل على الحق الذي لا ريب فيه من غير التواء ولا اعوجاج فليس فيه تعقيد بل انه الفطرة المستقيمة فطرة الله التي فطر الناس عليها.
الوصف الثاني: قوله تعالى (دينا قيما) أي حال كونه دينا صحيحا قيما و (قيم) مصدر قوم، وزن فعل، كعوج. وهو نقيضه وقرئ (قيما) أي هو في ذاته قيم بلغ أعلىا لمنزلة في الأديان والقراءتان متلاقيتان في المعنى وفي القراءة الأولى كان المصدر وصفا، وذلك في معنى المبالغة في أنه قيم وقويم كقولك فلان عدل.
الوصف الثالث: وهو شرف إضافي فالوصفان الأولان ذاتيان لأنهما وصفان حقيقيان لأنهما مشتقان من ذات الدين، وذلك الوصف هو قوله تعالى (ملة إبراهيم حنيفا) وذكر هذا الوصف ليبين للعرب الذين كانوا يتفاخرون بنسبهم إلى إبراهيم وبأنه ابو العرب ويدعون أنهم على ملة إبراهيم مع عبادتهم الأوثان فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لهم بأنه هو الذي على ملة إبراهيم وليسوا هم على ملته في شيء.
وهنا وصف ذاتي لهذا الدين جاء في ثنايا ذلك القول. وهو قوله تعالى (حنيفا) أي غير منحرف على باطل بل هو مائل إلى الحق متجه إليه، فهو مستقيم متجه إلى الحق فحنيفا صفة للدين.
ثم بين سبحانه ردا على وثنية المشركين فقال: (وما كان من المشركين) أي ليس لكم أن تفاخروا باتباعكم إبراهيم فما كان إبراهيم من المشركين ما كان إبراهيم أبوكم وأبو الأنبياء ممن دخل في صفوف المشركين بل أوابا مؤمنا. وهذا كقوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 123) (النحل).
وقال تعالى: (ان إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين 120 شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه على صراط مستقيم 121) (النحل).
ولقد كانت ملة إبراهيم عليه السلام سمحة لا ضيق فيها ودين محمد عليه الصلاة والسلام دين سمح لا حرج فيه. ولقد قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس 78) (الحج).