القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تُفَجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا : آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ، لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أو لا تؤمنوا به ، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله ولا ترككم الإيمان به يُنقص ذلك . وإن تكفروا به ، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين ، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرّون تعظيما له وتكريما ، وعلما منهم بأنه من عند الله ، لأذقانهم سجدا بالأرض .
واختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بقوله يَخِرّونَ للأَذْقانِ فقال بعضهم : عُنِي به : الوجوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يخِرّونَ للأَذْقانِ سُجّدا يقول : للوجوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَخِرّونَ للأَذْقانِ سُجّدا قال للوجوه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : بل عُنِيَ بذلك اللّحَى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن في قوله : يَخِرّونَ للأَذْقانِ قال : اللّحَى .
وقوله : سُبْحانَ رَبّنا إنُ كانَ وَعْدُ رَبّنا لَمَفْعُولاً يقول جلّ ثناؤه : ويقول هؤلاء الذين أوتوا العلم من قبل نزول هذا القرآن ، إذ خرّوا للأذقان سجودا عند سماعهم القرآن يُتْلى عليهم : تنزيها لربنا وتبرئه له مما يضيف إليه المشركون به ، ما كان وعد ربنا من ثواب وعقاب ، إلا مفعولاً حقا يقينا ، إيمان بالقرآن وتصديق به . والأذقان في كلام العرب : جمع ذَقَن وهو مجمع اللّحيين ، وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي قال الحسن في ذلك أشبه بظاهر التنزيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الذين عنوا بقوله أُوتُوا العِلْمَ وفي يُتْلَى عَلِيْهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ . . . إلى قوله خُشُوعا قال : هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد قالُوا سُبْحانَ رَبّنا إنْ كانَ وَعْدُ رَبّنا لَمَفْعُولاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ آمِنوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنّ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم إذَا يُتْلَى عَلَيهِمْ ما أنزل إليهم من عند الله يَخِرّونَ للأَذْقانِ سُجّدا وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبّنا إنْ كانَ وَعْدُ رَبّنا لَمَفْعولاً .
وقال آخرون : عُنِي بقوله : الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ( القرآن الذي أُنزل على ) محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ كتابهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ما أنزل الله إليهم من عند الله .
وإنما قلنا : عُنِي بقوله : إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ القرآن ، لأنه في سياق ذكر القرآن لم يجر لغيره من الكتب ذكر ، فيصرف الكلام إليه ، ولذلك جعلت الهاء التي في قوله : مِنْ قَبْلِهِ من ذكر القرآن ، لأن الكلام بذكره جرى قبله ، وذلك قوله : وَقُرآنا فَرَقْناهُ وما بعده في سياق الخبر عنه ، فذلك وجبت صحة ما قلنا إذا لم يأت بخلاف ما قلنا فيه حجة يجب التسليم لها .
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا وامتناعكم عنه لا يورثه نقصا وقوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } تعليل له أي أن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة ، وتمكنوا من الميز بين المحق والمبطل ، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب ، ويجوز أن يكون تعليلا ل { قل } على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم . { إذا يُتلى عليهم } القرآن . { يخرّون للأذقان سجّداً } يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله أو شكرا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وإنزال القرآن عليه .
وقوله { قل آمنوا به } الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد ، والمعنى أنكم لستم بحجة ، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم ، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة ، واختلف الناس في المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } ، فقالت فرقة : هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة : هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما .
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله ، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة ، وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح ، فنزلت الآية فيهم ، وقالت فرقة : المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } محمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير في { قبله } عائد على القرآن حسب الضمير في { به } ، ويبين ذلك قوله { إذا يتلى } ، وقيل الضميران لمحمد . واستأنف ذكر القرآن في قوله { إذا يتلى } ، وقوله { للأذقان } أي لناحيتها ، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما ، وعليهما قال ابن عباس : المعنى للوجوه ، وقال الحسن : المعنى للحي ، و «الأذقان » أسافل الوجوه حيث يجتمع الَّلحيان ، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض ، لا سيما عند سجوده ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم . . . سباع من الطير العوادي وتنتف{[7730]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.