{ 122 } { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
يقول تعالى : -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي : جميعا لقتال عدوهم ، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى ، { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ } أي : من البلدان ، والقبائل ، والأفخاذ { طَائِفَةٌ } تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى .
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ، فقال : { لِيَتَفَقَّهُوا } أي : القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي . ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
ففي هذا فضيلة العلم ، وخصوصا الفقه في الدين ، وأنه أهم الأمور ، وأن من تعلم علما ، فعليه نشره وبثه في العباد ، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ، من بركته وأجره ، الذي ينمى له .
وأما اقتصار العالم على نفسه ، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه ؟ وأي نتيجة نتجت من علمه ؟ وغايته أن يموت ، فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان ، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما .
وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف ، لفائدة مهمة ، وهي : أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ، ويوفر وقته عليها ، ويجتهد فيها ، ولا يلتفت إلى غيرها ، لتقوم مصالحهم ، وتتم منافعهم ، ولتكون وجهة جميعهم ، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا ، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب ، فالأعمال متباينة ، والقصد واحد ، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا . وقد بيّنا معنى الكافّة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين ، فقال بعضهم : هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام ، فلما نزل قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية . فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفَةٌ قال : ناس مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير ، لِيَتَفَقّهُوا وليسمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم ، إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال في حديثه : فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ خرج بعض وقعد بعض ، يبتغون الخير .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحو حديثه ، عن أبي حذيفة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة ، غير أنه قال في حديثه : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم ، وقال : ليَتَفَقّهُوا ليسمعوا ما في الناس .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قال : ليذهبوا كلهم ، فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين ، ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين ، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده . فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة ، يعني السرايا ، ولا يتسروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا ، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ يقول : يتعلمون ما أنزل الله على نبيه ، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : هذا إذا بعث نبيّ الله الجيوش أمرهم أن لا يعرّوا نبيه وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذّرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم .
حدثنا الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . الآية ، كان نبيّ الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر ، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه . فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبيّ الله على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذي أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم ، ويفقهونهم في الدين . وهو قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبيّ الله قاعد ، ولكن إذا قعد نبيّ الله تسرّت السرايا وقعد معه معظم الناس .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون ، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم . وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين ، فردّهم رسول الله إلىَ عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث ، وهو ما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : كان ينطلق من كلّ حيّ من العرب عصابة فيأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهون في دينهم ، ويقولون لنبيّ الله : ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله ، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة . وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : إن من أسلم فهو مّنا وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليعرّف أباه وأمه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة .
وقال آخرون : إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى : إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ قال ناس من المنافقين : هلك من تخلف فنزلت : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ . . . الآية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا سليمان الأحول عن عكرمة ، قال : سمعته يقول : لما نزلت : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وَما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ . . . إلى قوله : لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : والّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ . . . الآية .
واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ فقال بعضهم : عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا : معنى الكلام : فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة ، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة . وقد :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ . . . الآية ، قال : ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله . وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهمْ يقول : لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قالا : كافة ، ويدعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ قال : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويله : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة . طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد ، كما قال الله جلّ ثناؤه : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول : فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس ، وهو قول الضحاك وقتادة .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية بقوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ، ثم عقب ذلك جلّ ثناؤه بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها ، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم .
وأما قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ . فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه ، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم . لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ يقول : لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون ، فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه ، وكان جلّ ثناؤه قال : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله : «ليتفقهوا » إنما هو شرط للنفر لا لغيره ، إذ كان يليه دون غيره من الكلام .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معناه : ليتفقه المتخلفون في الدين ؟ قيل : ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة ، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه . وبعد ، فإنه قال جلّ ثناؤه : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ عطفا به على قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها ، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت ، فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما ؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى ، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة ، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة ، ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك .
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش . { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة . { ليتفقّهوا في الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها . { وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم ، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه و التذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد . { لعلهم يحذرُون } إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه ، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا ، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك ، وقد أشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي ( المرصاد ) . وقد قيل للآية معنى آخر وهو انه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود م البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو ، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم .