تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (130)

ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم ، وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى :

{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

أي : ما يرغب { عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } بعد ما عرف من فضله { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي : جهلها وامتهنها ، ورضي لها بالدون ، وباعها بصفقة المغبون ، كما أنه لا أرشد وأكمل ، ممن رغب في ملة إبراهيم ، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي : اخترناه ووفقناه للأعمال ، التي صار بها من المصطفين الأخيار .

{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } الذين لهم أعلى الدرجات .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (130)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ } وأيّ الناس يزهد في ملة إبراهيم ويتركها رغبة عنها إلى غيرها . وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام لأن ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة ، كما قال تعالى ذكره : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِيفا مُسْلِما } فقال تعالى ذكره لهم : ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سَفِهَ نَفْسَه . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَمَنْ يَرْغب عَن مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَه } رغب عن ملته : اليهود والنصارى ، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله ، وتركوا ملة إبراهيم يعني الإسلام حنيفا ، كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } قال : رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله ، وتركوا ملة إبراهيم الإسلام .

القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلا من سَفِهتْ نفسُه ، وقد بينا فيما مضى أن معنى السفه : الجهل . فمعنى الكلام : وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية إلا سفيهٌ جاهلٌ بموضع حظّ نفسه فيما ينفعها ويضرّها في معادها . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } قال : إلا من أخطأ حظه .

وإنما نصب «النفس » على معنى المفسر ذلك أن السفه في الأصل للنفس ، فلما نقل إلى «مَنْ » نصبت «النفس » بمعنى التفسير ، كما يقال : هو أوسعكم دارا ، فتدخل «الدار » في الكلام على أن السعة فيه لا في الرجل . فكذلك النفس أدخلت ، لأن السفه للنفس لا ل«مَنْ » ولذلك لم يجز أن يقال سفه أخوك ، وإنما جاز أن يفسر بالنفس وهي مضافة إلى معرفة لأنها في تأويل نكرة .

وقال بعض نحويي البصرة : إن قوله : سَفِهَ نَفْسَهُ جرت مجرى «سَفِهَ » إذا كان الفعل غير متعدّ . وإنما عدّاه إلى «نفسه » و«رأيه » وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو سفه ، إذا هو لم يتعدّ . فأما «غبن » و«خسر » فقد يتعدّى إلى غيره ، يقال : غبن خمسين ، وخسر خمسين .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اصطَفَيْنَاهُ فِي الدنْيَا } .

يعني تعال ذكره بقوله : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا } ولقد اصطفينا إبراهيم ، والهاء التي في قوله : اصْطَفْيَنَاهُ من ذكر إبراهيم . والاصطفاء : الافتعال من الصفوة ، وكذلك اصطفينا افتعلنا منه ، صيرت تاؤها طاءً لقرب مخرجها من مخرج الصاد .

ويعني بقوله : { اصْطَفَيْنَاهُ } اخترناه واجتبيناه للخُلّة ، ونُصَيّره في الدنيا لمن بعده إماما . وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سنّ لمن بعده فهو لله مخالف ، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو لإبراهيم مخالف وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخُلّته ، وجعله للناس إماما ، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة . ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أنّ من خالفه فهو لله عدوّ لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ } وإن إبراهيم في الدار الاَخرة لمن الصالحين . والصالح من بني آدم هو المؤدّي حقوق الله عليه . فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله أنه في الدنيا له صفيّ ، وفي الاَخرة وليّ ، وإنه وارد موارد أوليائه الموفّين بعهده .