الرغبة عن الشيء : الزهادة فيه ، والرغبة فيه : الإيثار له والاختيار له ، وأصل الرغبة : الطلب .
الاصطفاء : الانتجاب والاختيار ، وهو افتعال من الصفو ، وهو الخالص من الكدر والشوائب ، أبدلت من تائه طاء ، كان ثلاثيه لازماً .
صفا الشيء يصفو ، وجاء الافتعال منه متعدياً ، ومعنى الافتعال هنا : التخير ، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل .
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ] ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية .
ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده .
والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام .
ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ، لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في من سفه موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب نفسه على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي .
أما التمييز فلا يجيزه البصريون ، لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبهاً بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه .
وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف .
وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به ، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه ، فهو الذي نختاره ، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، كسفه بفتح الفاء وشدها .
قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه ، الخفة ، ومنه زمام سفيه .
وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :
ولا بفزارة الشعر الرقابا *** أجب الظهر ليس له سنام
وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف لجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : « الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس » انتهى كلامه .
فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :
ولا بفزارة الشعر الرقابا *** أجب الظهر ليس له سنام
ليس بصحيح ، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة .
والشعر جميع أشعر ، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل .
فليس نحوه ، لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة .
ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها .
وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه .
وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه .
وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل .
وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيهاً ، مثل فقه إذا صار فقيهاً ، قال :
فلا علم إذا جهل العليم *** ولا رشد إذا سفه الحليم
{ ولقد اصطفيناه في الدنيا } : أي جعلناه صافياً من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه .
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته .
وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبأن وباللام .
ولما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلاً بعد جيل .
وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغاً في التوكيد ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وأنه لصالح في الآخرة .
وقال بعضهم : هو على إضمار ، أعني : فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك .
وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك ، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما .
وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك .
وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا .
وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر .
قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء .
وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن .
وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه .
وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأنه لمن الصالحين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.