البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (130)

الرغبة عن الشيء : الزهادة فيه ، والرغبة فيه : الإيثار له والاختيار له ، وأصل الرغبة : الطلب .

الاصطفاء : الانتجاب والاختيار ، وهو افتعال من الصفو ، وهو الخالص من الكدر والشوائب ، أبدلت من تائه طاء ، كان ثلاثيه لازماً .

صفا الشيء يصفو ، وجاء الافتعال منه متعدياً ، ومعنى الافتعال هنا : التخير ، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل .

{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ] ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية .

ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده .

والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام .

ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ، لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في من سفه موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب نفسه على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي .

أما التمييز فلا يجيزه البصريون ، لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبهاً بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه .

وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف .

وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به ، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه ، فهو الذي نختاره ، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، كسفه بفتح الفاء وشدها .

وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة .

قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه ، الخفة ، ومنه زمام سفيه .

وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :

ولا بفزارة الشعر الرقابا *** أجب الظهر ليس له سنام

وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف لجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : « الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس » انتهى كلامه .

فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :

ولا بفزارة الشعر الرقابا *** أجب الظهر ليس له سنام

ليس بصحيح ، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة .

والشعر جميع أشعر ، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل .

وقبل النصف الأول قوله :

فما قومي بثعلبة بن سعدى***

وقبل الآخر قوله :

ونأخذ بعده بذناب عيش***

فليس نحوه ، لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة .

ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها .

وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه .

وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه .

وقال يمان : حمق رأيه .

وقال الكلبي : قتل نفسه .

وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل .

وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيهاً ، مثل فقه إذا صار فقيهاً ، قال :

فلا علم إذا جهل العليم *** ولا رشد إذا سفه الحليم

{ ولقد اصطفيناه في الدنيا } : أي جعلناه صافياً من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه .

{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته .

وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبأن وباللام .

ولما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلاً بعد جيل .

وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغاً في التوكيد ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وأنه لصالح في الآخرة .

وقال بعضهم : هو على إضمار ، أعني : فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك .

وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك ، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما .

وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك .

وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا .

وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر .

قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء .

وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن .

وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه .

وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأنه لمن الصالحين .

وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه .

/خ131