إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (130)

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم } إنكارٌ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغبُ عن ملته التي هي الحقُّ الصريحُ والدين الصحيحُ أي لا يرغب عن ملته الواضحةِ الغراء { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي أذلّها واستمهَنها واستخَفّ بها ، وقيل : خسِر نفسه وقيل : أوبقَ أو أهلكَ أو جهَّلَ نفسَه . قال المبرِّدُ وثعلبٌ : سفِه بالكسر متعدَ وبالضم لازم ، ويشهد له ما ورد في الخبر : «أنْ تَسْفَه الحَقَّ وتَغْمِصَ النَّاسَ » وقيل : معناه ضل من قِبَل نفسِه وقيل : أصلُه سفِه نفسُه بالرفع فنصب على التمييز نحو غَبِن رأيُه وألِمَ رأسُه ونحو قوله : [ الوافر ]

ونأخُذُ بعده بذِناب عيش *** أجبِّ الظهرِ ليس له سَنامُ{[74]}

وقوله : [ الوافر ]

وما قومي بثعلبةَ بن سعد *** ولا بفزارةَ الشُّعْرَ الرقابا{[75]}

ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحدٌ من العقلاء فقد بالغ في إذلالِ نفسه وذلتها وإهانتِها حيث خالف بها كلَّ نفس عاقلة . روي أن عبد اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمةَ ومُهاجِراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعثٌ من ولد إسماعيل نبياً اسمُه أحمدُ فمن آمن به فقد اهتدى ورشَد ومن لم يؤمن فهو ملعون فأسلم سلمةُ وأبي مهاجر فنزلت { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذُ صفوة الشيء كما أن أصلَ الاختيارِ اتخاذُ خيرِه واللامُ جواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، معطوفٌ عليها داخلٌ في حيز القسم مؤكدٌ لمضمونها مقرِّرة لما تقرِّره ولا حاجة إلى جعله اعتراضاً آخرَ أو حالاً مقدرة فإن مَنْ كان صفوةً للعباد في الدنيا مشهوداً له بالصلاح في الآخرة كان حقيقاً بالاتباع لا يَرغبُ عن ملته إلا سفيهٌ أو متسفّهٌ أذل نفسَه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل ، وإيثارُ الاسمية لما أن انتظامه في زُمرة صالحي أهلِ الآخرة أمرٌ مستمرٌ في الدارين لا أنه يحدُث في الآخرة ، والتأكيدُ ( بإن ) واللام لما أن الأمورَ الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتُها إلى التأكيد أشدُّ من الأمور التي تُشاهد آثارُها ، وكلمة ( في ) متعلقةٌ بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديمُ بعض الصلة عليها على أنه قد يُغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله : [ الرجز ]

ربيتُه حتى إذا تَمَعْددا *** كان جزائي بالعصا أن أُجلَدا{[76]}

أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالحٌ في الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أي أعني في الآخرة نحو لك بعدَ رَعْياً وقيل : هي متعلقةٌ باصطفيناه على أن في النظم الكريم تقديماً وتأخيراً تقديرُه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين .


[74]:وهو للنابغة في ديوانه 106 وفي الأغاني 11/26 وخزانة الأدب 7/511؛ 9/363 والمقاصد النحوية 3/579 وبلا نسبة في لسان العرب 1/249 (جبب)؛ 1/390 (ذنب) والأشباه والنظائر 6/11 وشرح الأشموني 3/591 وفي المقاصد النحوية 3/582-583 ويروى قبله فإن يهلك أبو قابوس يهلك *** ربيع الناس الناس والشهر الحرام. ويروى بجزم "نأخذ" على العطف ويرفعه على الاستئناف بنصه بأن المضمرة بعد واو المعية.
[75]:وهو لحارث بن ظالم في الأغاني 11/119 وشرح أبيات سيبويه 1/258 والمقاصد النحوية 3/609 وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/492 وشرح المفصل 6/89 والشاهد فيه "الشعر الرقاب" حيث نصب قوله "الرقاب" والشعر جمع أشعر وهو هنا صفة مشبهة واتفق الكوفيون والبصريون على أنه يجوز انتصابه على التمييز وذلك لأنهم يجوزون أن يأتي التمييز معرفة.
[76]:تمعدد: غلظ وسمن عن اللحياني قال: وبينه حتى إذا تمعدوا.