المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (130)

{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ( 130 )

{ من } استفهام في موضع رفع بالابتداء ، و { يرغب } خبره ، والمعنى يزهد ويربأ بنفسه عنها ، والملة الشريعة والطريقة ، و { سفه } من السفه الذي معناه الرقة والخفة ، واختلف في نصب { نفسه } ، فقال الزجاج : { سفه } بمعنى جهل وعداه بالمعنى( {[1272]} ) ، وقال غيره : { سفه } بمعنى أهلك ، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها( {[1273]} ) ، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة ، وقال الفراء نصبها على التمييز( {[1274]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق ، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في { من } ، فكأن الكلام : إلا من سفه نفساً( {[1275]} ) ، وقال البصريون : لا يجوز التمييز مع هذا التعريف ، وإنما النصب على تقدير حذف «في » ، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل ، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن ، وحكى مكي أن التقدير { إلا من سفه } قوله { نفسه } على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياساً على النعت والمنعوت .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متحامل( {[1276]} ) ، و «اصطفى » «افتعل » من الصفوة معناه تخير الأصفى ، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق( {[1277]} ) ، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلاً ، و { في الآخرة } متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح ، ولا يصلح( {[1278]} ) تعلقه ب { الصالحين } لأن الصلة لا تتقدم الموصول ، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي ، وقال بعضهم : الألف واللام هنا للتعريف ويستقيم الكلام( {[1279]} ) ، وقيل : المعنى أنه من عمل الآخرة { لمن الصالحين } ، فالكلام على حذف مضاف .


[1272]:- يعني أنه ضمنه معنى فعل آخر وهو (جهل) أو (أهلك).
[1273]:- معناه أن سفه يتعدى وهو بمعنى سفه بفتح الفاء وشدها، وقالوا: إن ذلك لغة، والمعنى أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم عليه السلام إلا من جهل نفسه ولم يعرف ما فيها من الدلائل، وقد قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ومن ثم كان الجهل أعظم مذمة لأنه وقد قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ومن ثم كان الجهل أعظم مذمة لأنه مبدأ كل نقيصة، وذلك لأن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى الجهل بالصانع، والجهل بالصانع يؤدي إلى قلة المبالاة بأمره ونهيه.
[1274]:- تقدم أنها مفعولة على التضمين، أو على أنها لغة متعدية، وقال الفراء من الكوفيين: نصبها على التمييز، وقال البصريون: التفسير أي التمييز نكرة ولا تكون المعرفة نكرة، وقد أول ذلك أهل الكوفة، والله أعلم.
[1275]:- يقول الفراء: لما حول الفعل من النفس إلى صاحبها خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفه فيه، وكان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا لأن المفسر لا يكون إلا نكرة، ولكنه قد ترك على إضافته ونصب كنصب النكرة تشبيها بالمفعول به، وقال المبرد، وثعلب: سفه بالكسر متعد بنفسه، وقد تقدم هذا القول وهو الوجه وما عداه ضعيف.
[1276]:- أي فيه تحامل وتكلف.
[1277]:- ولكون مخرجهما واحد فأتي بحرف وسط بين الحرفين.
[1278]:- وفي بعض النسخ ولا يصح.
[1279]:- أي على هذا القول، وأن (أل) للتعريف كهي في الرجل والغلام- يستقيم الكلام ويصح تعلق الجار والمجرور بما بعده.