{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي : قلب عظيم حي ، ذكي ، زكي ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله ، تذكر بها ، وانتفع ، فارتفع{[837]} وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله ، واستمعها ، استماعًا يسترشد به ، وقلبه { شَهِيدٌ } أي : حاضر ، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة ، وشفاء وهدى .
وأما المعرض ، الذي لم يلق{[838]} سمعه إلى الآيات ، فهذا لا تفيده شيئًا ، لأنه لا قبول عنده ، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإِهلاك للأمم المكذبة السابقة { لذكرى } أى : لتذكرة وعبرة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى : لمن كان له قلب يعى ما يسمع ، ويعقل ما يوجه إليه ، ويعمل بمقتضى هذا التوجيه الحكيم . { أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } أى : فيما سقناه عبرة وعظة لمن كان له قلب يعى الحقائق ، ولمن أصغى إلى ما يلقى إليه من إرشادات ، وهو حاضر الذهن صادق العزم لتنفيذ ما جاءه من الحق .
قال صاحب الكشاف : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أى قلب واع ، لأن من لا يعى قلبه فكأنه لا قلب له ، وإلقاء السمع : الإِصغاء . { وَهُوَ شَهِيدٌ } أى : حاضر بقطنته ، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب . . أو هو مؤمن شاهد على صحته ، وأنه وحى الله .
وقوله : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشدِّ بطشاً ، ويجوز أن يكون إلى جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء .
والذكرى : التذكرة العقلية ، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سَيَنَالهُمْ ما نال أولئك ، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه .
والقلب : العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه . وإلقاء السمع : مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه .
والشهيد : المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر ، أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سَحْنة فإن النظر يعين على الفهم . وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهِدا . وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر . وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة .
وموقع { أو } للتقسيم لأن المتذكر إمّا أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود ، قال تعالى : { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } [ النمل : 52 ] فقوله : { ألقى السمع } استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب ، وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية . وقيل المراد بمن ألقى السمع وهو شهيد خصوص أهل الكتاب الذين ألقوا سمعهم لهذه الذكرى وشهدوا بصحتها لعلمهم بها من التوراة وسائر كتبهم فيكون { شهيد } من الشهادة لا من المشاهدة . وقال الفخر : تنكير { قلب } للتعظيم والكمال . والمعنى : لمن كان له قلب ذكيّ واع يستخرج بذكائه ، أو لمن ألقى السمع إلى المنذر فيتذكر ، وإنما قال { أو ألقى السمع } ولم يقل : استمع ، لأن إلقاء السمع ، أي يرسل سمعه ولا يمسكه وإن لم يقصد السماع ، أي تحصل الذكرى لمن له سمع . وهو تعريض بتمثيل المشركين بمن ليس له قلب وبمن لا يلقي سمعه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن في ذلك} يعني في هلاكهم في الدنيا {لذكرى} يعني لتذكرة {لمن كان له قلب} يعني حيا يعقل الخير {أو ألقى السمع} يقول: أو ألقى بأذنيه السمع {وهو شهيد} يعني وهو شاهد القلب غير غائب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها من قبل قريش" لَذِكْرَى "يُتَذَكّر بها "لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ" يعني: لمن كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ بهم من العذاب...
وقوله: "أوْ ألْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" يقول: أو أصغى لإخبارنا إياه عن هذه القرون التي أهلكناها بسمعه، فيسمع الخبر عنهم، كيف فعلنا بهم حين كفروا بربهم، وعصوْا رسله "وَهُوَ شَهِيدٌ" يقول: وهو متفهم لما يخبرُ به عنهم شاهد له بقلبه، غير غافل عنه ولا ساه...
وقال آخرون: عنى بالشهيد في هذا الموضع: الشهادة... عن قتادة "أوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" يعني بذلك أهل الكتاب، وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {لمن كان له قلب} ينتفع به في التأمّل والنظر، وإنما كنّى بالقلب عن العقل، لأن الناس اختلفوا؛ قال بعضهم: إن القلب محلّ العقل، وقال بعضهم: محلُّه الرأس، لكن نوره يصل إلى القلب، فيُبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل، فلذلك كنّى بالقلب عن العقل لمجاورةٍ بينهما، وهو شائع في اللغة.
وقوله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي يستمع، وهو شاهد سمعه وقلبه.
وأصله أن القلب جُعل للوعي والحفظ بعد الإدراك والإصابة.
ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان:
أحدهما: التأمّل والنظر في المحسوس.
والثاني: أن يُلقى إليه الخبر، وهو يستمع له؛ فكأنه يقول، والله أعلم: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} يطلب الرشد والصّواب، وينظُر، ويعي، ويحفظ.
ويحتمل: {أو ألقى السمع} أي يستمع لما أُلقي عليه، وهو شاهد السمع والقلب، فتكون الذكرى لمن اختصّ بهذين أو انتفع به هذان الصنفان بالتأمّل، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها، أو يستمع حقيقة ذلك بالسمع، فيتذكّر، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي قلب واع؛ لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له. وإلقاء السمع: الإصغاء {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي حاضر بفطنته، لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أو ألقى السمع وهو شهيد} معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها، فذلك إلقاء له عليها...
... فكأنه تعالى قال: إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال {له قلب} وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلا، كما في قوله تعالى: {صم بكم عمي} حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه: تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه. وأدلة على المراد. فقوله: {إن في ذلك لذكرى} إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا. وهذا هو المؤثر. وقوله: {لمن كان له قلب} فهذا هو المحل القابل. والمراد به: القلب الحي الذي يعقل عن الله،[...] وقوله: {أو ألقى السمع} أي: وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله: {وهو شهيد} أي: شاهد القلب حاضر، غير غائب...استمع لكتاب الله وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه. وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثر. وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله. فإذا حصل المؤثر، (وهو القرآن)، والمحل القابل، (وهو القلب الحي)، ووجد الشرط، (وهو الإصغاء)، وانتفى المانع، (وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلي شيء آخر): حصل الأثر، (وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن في ذلك} أي الأمر- البديع من العظات التي صرفناها هنا على ما ترون من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة في الإهلاك وغيره {لذكرى} أي تذكيراً عظيماً جداً... {لمن كان} أي كوناً عظيماً {له قلب} هو في غاية العظمة والنورانية إن رأى شيئاً من ذلك فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتز به، ومن- لم يكن كذلك فلا قلب له لأن قلبه لما كان غير نافع كان عدماً...
{أو ألقى} أي إلقاء عظيماً بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل {السمع} أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه {وهو} أي و- الحال أنه في حال إلقائه {شهيد} أي حاضر بكليته، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه {شَهِيدٌ} أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى. وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئًا، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مصارع الغابرين ذكرى. ذكرى لمن كان له قلب. فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه أو لم يرزق قلبا على الإطلاق! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي، فتفعل القصة فعلها في النفوس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله:"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب "إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشدِّ بطشاً، ويجوز أن يكون إلى جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء.
والذكرى: التذكرة العقلية، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سَيَنَالهُمْ ما نال أولئك، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه.
والقلب: العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه. وإلقاء السمع: مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه.
والشهيد: المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر، أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سَحْنة فإن النظر يعين على الفهم. وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهِدا. وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر. وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة.
وموقع {أو} للتقسيم لأن المتذكر إمّا أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: 52] فقوله: {ألقى السمع} استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب، وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي عقل يفكر فيه، فيقيس الحاضر بالماضي، ويأخذ منه الدرس للمستقبل، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي اتجه بسمعه إلى حكاية التاريخ المشتمل على العبر والعظات، {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضرٌ بعقله وسمعه، مستوعبٌ لكل دروس الحياة المتحركة بأمر الله، فلا يغيب عنه شيءٌ مما حوله، أو ممن حوله...