وأكلا من الشجرة فسقط في أيديهما ، وسقطت كسوتهما ، واتضحت معصيتهما ، وبدا لكل منهما سوأة الآخر ، بعد أن كانا مستورين ، وجعلا يخصفان على أنفسهما من ورق أشجار الجنة ليستترا بذلك ، وأصابهما من الخجل ما الله به عليم .
{ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } فبادرا إلى التوبة والإنابة ، وقالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
ثم أكد كل هذا التحريض بالقسم كما فى قوله - تعالى - : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } فكانت نتيجة مكره بآدم وخداعه له ، أن أطاعه فى الأكل من الشجرة كما قال - تعالى - : { فَأَكَلاَ مِنْهَا } أى : فأكل آدم وزوجه من الشجرة التى نهاه ربه عن الأكل منها .
{ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } أى : عوراتهما ، وسميت العورة سوءة ، لأن انكشافها يسوء صاحبها وبحزنه ، ويجعل الناس تنفر منه .
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة . . } أى : وشرعا وأخذا يلزقان على أجسادهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما .
وكثير من المفسرين يقولون : إن ورق الجنة الذى أخذ آدم وحواء فى لزقه على أجسادهما هو ورق شجر التين لكبر حجمه .
وقد أخذ العلماء من ذلك وجوب ستر العورة ، لأن قوله - تعالى - : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } يدل على قبح انكشافها ، وأنه يجب بذل أقصى الجهد فى سترها .
وقوله { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } أى : وخالف آدم أمر ربه فى اجتناب الأكل من الشجرة { فغوى } أى : فأخطأ طريق الصواب ، بسبب عدم طاعته ربه .
قالوا : ولكن آدم فى عصيانه لربه كان متأولا ، لأنه اعتقد أن النهى عن شجرة معينة لا عن النوع كله ، وقالوا : وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه ، وقد قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
كما قالوا : إن الأسباب التى حملت آدم على الأكل من الشجرة ، أن إبليس أقسم له بالله إنه له ناصح ، فصدقه آدم - عليه السلام - لاعتقاده أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كاذبا ، والمؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم كما جاء فى الحديث الشريف .
و «وسوسة الشيطان » قيل كانت دون مشافهة ، إلقاء في النفس ، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية ، وكان آدم عليه السلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها { شجرة الخلد وملك لا يبلى } أي من أكلها كان ملكاً مخلداً عمد آدم إلى غير تلك التي نهي عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة ، وقيل بل تأول أن النهي إنما كان على الندب لا على التحريم البت ، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابهما ، وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما .
{ وطفقا } معناه وجعلا يفعلان ذلك دائماً ، و { يخصفان } معناه يلفقان ويضمان شيئاً إلى شيء فكانا يستتران بالورق وروي أنه كان ورق التين ، ثم نص{[1]} تبارك وتعالى على آدم أنه { عصى } و «غوى » معناه ضل من الغي الذي هو ضد الرشد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره . . . ومن يغو لا يعدم على الغي لائما{[2]}
وقرأت فرقة «وأنك » بفتح الألف عطفاً على قوله { أن لا تجوع } وقرأت فرقة و «إنك » عطفاً على قوله { إن لك }{[3]} .
تفريع على ما قبله وثمّ جملة محذوفة دل عليها العرض ، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه .
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء ، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة . وتقدم معنى { فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } في سورة الأعراف ( 22 ) .
وقوله وعصى آدم ربه } عطف على { فأكلا منها } ، أي أكلا معاً ، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة . وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه ، وفي هذا المعنى قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] .
والغواية : ضدّ الرشد ، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل ، وإثبات العصيان لآدم دليل على أنه لم يكن يومئذ نبيئاً ، ولأنّه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك ، فالعصيان والغواية يومئذ : الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمرَ كبيرها ، وإنما كان شنيعاً لأنّه عصيان أمر الله . !
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لِمنعها ، لأنّ ذلك العالَم لم يكن عالَم تكليف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها، وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمر ربهما، "فَبَدَتُ لَهُما سَوْآتُهُما "يقول: فانكشفت لهما عوراتهما، وكانت مستورة عن أعينهما...
وقوله: "وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما منْ وَرَقِ الجَنّةِ" يقول: أقبلا يشدّان عليهما من ورق الجنة... عن قتادة، قوله: "وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما منْ وَرَقِ الجَنّةِ" يقول: يوصلان عليهما من ورق الجنة.
وقوله: "وَعَصى آدَمُ رَبّهُ فَغَوَى" يقول: وخالف أمر ربه، فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدّى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} كل من عصى ربه فقد غوى. العصيان والغواية واحد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا ارتكبا المنهيَّ عنه ظهر ما يُسْتَحْيَى مِنْ ظهوره، ولكنَّ اللَّهَ -سبحانه- أَلْطَفَ معهما في هذه الحالة بقوله: فَبَدَتْ لهما سوآتهما، ولم يَقُلْ -مُطْلَقاً- فبدت سَوْآتُهما؛ أي أنه لم يُطْلِع على سوءتهما غيرَهما.
ويقال لَمَّا تجرَّدَا عن لِباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... عن ابن عباس: لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون فعلاً رشداً وخيراً، فكان غيا لا محالة؛ لأنّ الغي خلاف الرشد، ولكن قوله: {وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات، فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة و بهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيآت والصغائر، فضلاً أن تجسروا على التورّط في الكبائر.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الأولى: قوله تعالى:"وعصى" تقدم في "البقرة "في ذنوب الأنبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم... فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهم صلوات الله وسلامه عليهم -وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه.
الثالثة-روى الأئمة واللفظ [لمسلم] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى، أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا".." فحج آدم موسى "أي غلبه بالحجة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأكلا} أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل {منها} هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما {فبدت لهما} لما خرقا من ستر النهي وحرمته {سوءاتهما} وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه {وطفقا} أي شرعا {يخصفان} أي يخيطان أو يلصقان {عليهما من ورق الجنة} ليسترا عوراتهما. {وعصى آدم} وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر {ربه} أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه {فغوى} من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا: المعنى: فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والظاهر أنها السوءات الحسية تبدت لهما وكانت عنهما مستورة، وأنها مواضع العفة في جسديهما. يرجح ذلك أنهما أخذا يسترانها بورق الجنة يشبكانه ليستر هذه المواضع. وقد يكون ذلك إيذانا باستيقاظ الدوافع الجنسية في كيانهما. فقبل يقظة هذه الدوافع لا يحس الإنسان بالخجل من كشف مواضع العفة ولا ينتبه إليها ولكنه ينتبه إلى العورات عند استيقاظ دوافع الجنس ويخجل من كشفها. وربما كان حظر هذه الشجرة عليهما، لأن ثمارها مما يوقظ هذه الدوافع في الجسم تأجيلا لها فترة من الزمان كما يشاء الله. وربما كان نسيانهما عهد الله وعصيانهما له تبعه هبوط في عزيمتهما وانقطاع عن الصلة بخالقهما فسيطرت عليهما دوافع الجسد وتنبهت فيهما دوافع الجنس. وربما كانت الرغبة في الخلود تجسمت في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل؛ فهذه هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود.. كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوآتهما لهما للأكل من الشجرة. فهو لم يقل: فبدت سوآتهما. إنما قال: فبدت لهما سوآتهما. مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما.. وقد جاء في موضع آخر عن إبليس: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما)، وجاء (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) وقد يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا ماديا إنما هو شعور ساتر، قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والصلة بالله. وعلى أية حال فهي مجرد فروض كما أسلفنا لا نؤكدها ولا نرجح واحدا منها. إنما هي لتقرب صورة التجربة الأولى في حياة البشرية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة...
وقوله: {وعصى آدم ربه} عطف على {فأكلا منها}، أي أكلا معاً، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة. وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6].
والغواية: ضدّ الرشد، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل، وإثبات العصيان لآدم دليل على أنه لم يكن يومئذ نبيئاً، ولأنّه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك، فالعصيان والغواية يومئذ: الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمرَ كبيرها، وإنما كان شنيعاً لأنّه عصيان أمر الله.!
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لِمنعها، لأنّ ذلك العالَم لم يكن عالَم تكليف.
... وقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي: فيما قبل النبوة، وفي مرحلة التدريب، والإنسان في هذه المرحلة عرضة لأن يصيب، ولأن يخطئ، فإن أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تصوب له الخطأ، كالتلميذ في فترة الدراسة، إن أخطأ صوب له المعلم، أما في الامتحان فيحاسبه. ومعنى {فغوى} يعني: لم يصب الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاو أي: تائه. ثم تأتي المرحلة الأخرى: مرحلة العصمة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} في ما يعنيه ذلك من الإحساس بالعري الذي يعيشان معه الشعور بالعار والخزي في الوقت الذي كانا يتحركان ببساطة من دون مراعاة لوجود شيء في جسديهما يوحي بالستر، لأن مسألة الخطيئة في أفكارهما وأحلامهما لم تكن واردة في منطقة الشعور لديهما، ولهذا كانا لا يشعران بوجود عورة، لأن ذلك هو وليد الشعور بالمنطقة الخفية من شخصية الإنسان في ما يختزنه في داخله من أفكار وأحاسيس كامنة في الذات. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} في عملية تغطية وإخفاء وتخلص من العار، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وابتعد عن خط الرشد الذي يقود الإنسان الى ما فيه صلاحه في حياته المادية والمعنوية، ولكن هذا الانحراف الطارئ البسيط لم يكن حالة معقّدة في عمق الذات تفرض عليه الاستسلام للخطيئة كعنصر ذاتي لا يملك الانفكاك منه، بل هو حالة إنسانية تستغرق في الغفلة لحظة ثم تثوب إلى رشدها، لتدخل في عالم الاستقامة من جديد..