قوله :{ فَأكَلاَ مِنْهَا } يعني آدم وحواء . { فَبَدَتْ{[27180]} لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } .
قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما{[27181]} . وإنما جمع " سَوْآتِهِمَا " كما قال " " صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " {[27182]} .
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قال الزمخشري : طَفِقَ بفعل كذا مثل جعل{[27183]} يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ{[27184]} ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه{[27185]} مسافة قصيرة{[27186]} . وقرئ " يُخَصِّفان " {[27187]} للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أي : يلزقان الورق بسوآتهما{[27188]} للتستر ، وهو ورق التين{[27189]} . قوله : { وعصى آدَمُ رَبَّهُ } بأكل الشجرة " فَغَوى " أي " فعل ( ما لم يكن له فعله ){[27190]} . وقيل : أخطأ طريق الجنة وضلَّ{[27191]} حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده{[27192]} .
وقال ابن الأعرابي : أي : فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب{[27193]} . قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عَصَى آدمُ ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاصٍ{[27194]} ولا يقال : هو خياط ( حتى يعاوده ويعتاده{[27195]} ){[27196]} .
قوله : { فَغَوَى } الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها .
وقيل : معناه بشم من قولهم : غوي البعير{[27197]} بكسر الواو والياء إذا{[27198]} أصابه ذلك{[27199]} . وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى{[27200]} .
قال الزمخشري : زعم بعضهم " فَغَوى " {[27201]} فَبَشَم من كثرة الأكل ، وهذا{[27202]} وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها{[27203]} ألفاً ، فيقول في فَنِيَ ، وبَقِيَ : فَنَا وَبَقَا{[27204]} ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث{[27205]} .
قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع على أنه قرئ{[27206]} بكسر الواو{[27207]} ، ولو اطلع عليها لردها ، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم -عليه السلام{[27208]}- إلى الغي{[27209]} .
فصل{[27210]}
تمسك بعضهم{[27211]} بقوله : { وعصى آدَمُ رَبَّهُ فغوى } في صدور الكبيرة عنه من وجهين :
أحدهما{[27212]} : أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق{[27213]} إلا على صاحب الكبيرة ، ولقوله تعالى{[27214]} : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ{[27215]} خَالِدِينَ{[27216]} فيها }{[27217]} ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه .
الثاني : أن الغواية والضلالة{[27218]} اسمان مترادفان ، والغي ضد الرشد ، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه .
وأجيب{[27219]} عن الأول : بأن المعصية مخالفة الأمر{[27220]} ، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب ، فإنك تقول : أمرته فعَصَاني ، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع{[27221]} إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب ، والعرف يدل على أنه اسم{[27222]} ذم ، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة ، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب .
فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز{[27223]} والمجاز لا يطرد .
قلنا{[27224]} : لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه ، وأما قوله{[27225]} : يقال{[27226]} أمرته بشرب الدواء فَعَصَاني ، قلنا{[27227]} : لا نُسَلِّم أن هذا الاستعمال مروي{[27228]} عن العرب ، ولئن سلَّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل{[27229]} . وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً ، وإن لم يكن الوجوب حاصلاً ، وذلك يدل على أنَّ لفظ العصيان لا يجوز{[27230]} إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى{[27231]} يقتضي الوجوب{[27232]} ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم -عليه السلام- إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلَّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه ، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر ، وهذا قول عامة المعتزلة . وهذا أيضاً ضعيف{[27233]} ، لأنا{[27234]} بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب ، وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم : بأنه عَصَى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ، وكذا القول في " غَوَى " .
وهذا أيضاً بعيد ، لأن مصالح الدنيا مباحة ، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم ، ولا يقال : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ }{[27235]} .
وأما التمسك بقوله : " فَغَوَى " فأجابوا عنه من وجوه :
أحدها : أنه خابَ من نعيم الجنة ، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدومَ مُلْكه ، فلما أكل زال ، فلما خاب سَعْيه قيل : إنَّه غَوَى .
وتحقيقه أن الغَيَّ ضدُّ الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود ، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غياً .
وثانيها : قال بعضهم غَوَى أي : بَشَم من كثرة الأكل{[27236]} .
قال ابن الخطيب : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة . وهاهنا بحث لا بد منه ، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلَّ على أن آدم عصى وغوى{[27237]} ، ولكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصياً غاوياً . ويدل على صحة هذا القول أمور :
أحدها : قال العُتبي{[27238]} : يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده ، ويصير معروفاً بالخياطة .
وهذه الزلة لم تصدر عن آدم إلا مرة واحدة ، فوجب أن لا يجوز إطلاق الاسم عليه .
وثانيها : أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن{[27239]} أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ{[27240]} فكذا هنا .
وثالثها : أن قولنا : عاصٍ وغاوٍ{[27241]} يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء ، ( وغاوياً عن معرفة الله تعالى ){[27242]} ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها ، فكأنه قال : عصى في كيت وكيت ، وذلك لا يوهم ما ذكرنا .
ورابعها : أنه يجوز{[27243]} من الله ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره{[27244]} .