اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ} (121)

قوله :{ فَأكَلاَ مِنْهَا } يعني آدم وحواء . { فَبَدَتْ{[27180]} لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } .

قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما{[27181]} . وإنما جمع " سَوْآتِهِمَا " كما قال " " صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " {[27182]} .

{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قال الزمخشري : طَفِقَ بفعل كذا مثل جعل{[27183]} يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ{[27184]} ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه{[27185]} مسافة قصيرة{[27186]} . وقرئ " يُخَصِّفان " {[27187]} للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أي : يلزقان الورق بسوآتهما{[27188]} للتستر ، وهو ورق التين{[27189]} . قوله : { وعصى آدَمُ رَبَّهُ } بأكل الشجرة " فَغَوى " أي " فعل ( ما لم يكن له فعله ){[27190]} . وقيل : أخطأ طريق الجنة وضلَّ{[27191]} حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده{[27192]} .

وقال ابن الأعرابي : أي : فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب{[27193]} . قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عَصَى آدمُ ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاصٍ{[27194]} ولا يقال : هو خياط ( حتى يعاوده ويعتاده{[27195]} ){[27196]} .

قوله : { فَغَوَى } الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها .

وقيل : معناه بشم من قولهم : غوي البعير{[27197]} بكسر الواو والياء إذا{[27198]} أصابه ذلك{[27199]} . وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى{[27200]} .

قال الزمخشري : زعم بعضهم " فَغَوى " {[27201]} فَبَشَم من كثرة الأكل ، وهذا{[27202]} وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها{[27203]} ألفاً ، فيقول في فَنِيَ ، وبَقِيَ : فَنَا وَبَقَا{[27204]} ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث{[27205]} .

قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع على أنه قرئ{[27206]} بكسر الواو{[27207]} ، ولو اطلع عليها لردها ، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم -عليه السلام{[27208]}- إلى الغي{[27209]} .

فصل{[27210]}

تمسك بعضهم{[27211]} بقوله : { وعصى آدَمُ رَبَّهُ فغوى } في صدور الكبيرة عنه من وجهين :

أحدهما{[27212]} : أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق{[27213]} إلا على صاحب الكبيرة ، ولقوله تعالى{[27214]} : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ{[27215]} خَالِدِينَ{[27216]} فيها }{[27217]} ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه .

الثاني : أن الغواية والضلالة{[27218]} اسمان مترادفان ، والغي ضد الرشد ، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه .

وأجيب{[27219]} عن الأول : بأن المعصية مخالفة الأمر{[27220]} ، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب ، فإنك تقول : أمرته فعَصَاني ، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع{[27221]} إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب ، والعرف يدل على أنه اسم{[27222]} ذم ، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة ، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب .

فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز{[27223]} والمجاز لا يطرد .

قلنا{[27224]} : لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه ، وأما قوله{[27225]} : يقال{[27226]} أمرته بشرب الدواء فَعَصَاني ، قلنا{[27227]} : لا نُسَلِّم أن هذا الاستعمال مروي{[27228]} عن العرب ، ولئن سلَّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل{[27229]} . وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً ، وإن لم يكن الوجوب حاصلاً ، وذلك يدل على أنَّ لفظ العصيان لا يجوز{[27230]} إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى{[27231]} يقتضي الوجوب{[27232]} ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم -عليه السلام- إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلَّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه ، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر ، وهذا قول عامة المعتزلة . وهذا أيضاً ضعيف{[27233]} ، لأنا{[27234]} بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب ، وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم : بأنه عَصَى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ، وكذا القول في " غَوَى " .

وهذا أيضاً بعيد ، لأن مصالح الدنيا مباحة ، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم ، ولا يقال : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ }{[27235]} .

وأما التمسك بقوله : " فَغَوَى " فأجابوا عنه من وجوه :

أحدها : أنه خابَ من نعيم الجنة ، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدومَ مُلْكه ، فلما أكل زال ، فلما خاب سَعْيه قيل : إنَّه غَوَى .

وتحقيقه أن الغَيَّ ضدُّ الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود ، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غياً .

وثانيها : قال بعضهم غَوَى أي : بَشَم من كثرة الأكل{[27236]} .

قال ابن الخطيب : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة . وهاهنا بحث لا بد منه ، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلَّ على أن آدم عصى وغوى{[27237]} ، ولكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصياً غاوياً . ويدل على صحة هذا القول أمور :

أحدها : قال العُتبي{[27238]} : يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده ، ويصير معروفاً بالخياطة .

وهذه الزلة لم تصدر عن آدم إلا مرة واحدة ، فوجب أن لا يجوز إطلاق الاسم عليه .

وثانيها : أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن{[27239]} أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ{[27240]} فكذا هنا .

وثالثها : أن قولنا : عاصٍ وغاوٍ{[27241]} يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء ، ( وغاوياً عن معرفة الله تعالى ){[27242]} ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها ، فكأنه قال : عصى في كيت وكيت ، وذلك لا يوهم ما ذكرنا .

ورابعها : أنه يجوز{[27243]} من الله ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره{[27244]} .


[27180]:في ب: قوله: فبدت.
[27181]:الفخر الرازي: 22/127.
[27182]:من قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]. قال: "سوآتكما"، "قلوبكما" بالجمع، لأن كل عضو ليس في البدن منهما إلا عضو واحد فإن تثنيته بلفظ جمعه، والسوأة، والقلب ليس في البدن منهما إلا عضو واحد. انظر البيان 2/446، التبيان 2/1229.
[27183]:في الأصل: جعل كذا، وفي ب: مثل فعل. وهو تحريف.
[27184]:في ب: يفعل كذا، وهو تحريف.
[27185]:وبينه: سقط من الأصل. وفي ب: وبينهما.
[27186]:الكشاف 2/450. طفق، جعل، أخذ، أنشأ، من أفعال المقاربة وهذه الأفعال تدخل على الجملة الاسمية فترفع المبتدأ اسما لها وتنصب الخبر خبرا لها، ولا يكون الخبر إلا جملة فعلية فعلها مضارع ويمتنع اقترانها بـ "أن" من المنافاة لأن المقصود بها الحال لأن معناها الشروع في الفعل، و"أن" لاستقبال. انظر شرح المفصل 7/126 – 127.
[27187]:بكسر الخاء وتشديد الصاد – قراءة الحسن. المختصر 90، والإتحاف 308. جعلها من "يختصفان) فأدغم التاء في الصاد، وحرك الخاء بالكسر، لاجتماع الساكنين. انظر معاني القرآن للأخفش 2/515.
[27188]:في ب: لسوآتهما. وهو تحريف.
[27189]:انظر الكشاف 2/450.
[27190]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27191]:وضل: سقط من ب.
[27192]:انظر البغوي 6/463.
[27193]:انظر البغوي 6/463.
[27194]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27195]:انظر تأويل مشكل القرآن ( 403).
[27196]:ما بين القوسين في ب: حتى يعاونه ويعتاده. وهو تحريف.
[27197]:غوى الفصيل: بشم من اللبن وفسد جوفه. والبشم: التخمة، وقيل هو أن يكثر من الطعام حتى يكربه. اللسان (غوى، بشم).
[27198]:في ب: بكسر الراء وإذا. وهو تحريف.
[27199]:انظر تأويل مشكل القرآن (402).
[27200]:قال أبو البقاء: (وقرئ شاذا بالياء وكسر الواو، وهو من غوى الفصيل إذا بشم على اللبن، وليست بشيء) البيان 2/906.
[27201]:في ب: قال الزمخشري. وغوى غيره فغوى. وهو تحريف.
[27202]:في ب: هذا.
[27203]:في ب: ما بعدها. وهو تحريف.
[27204]:في ب: فيقول في نفي معنا. وهو تحريف.
[27205]:الكشاف 2/450.
[27206]:في ب: قرأ. وهو تحريف.
[27207]:وهي القراءة الذي حكاها أبو البقاء.
[27208]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[27209]:الدر المصون : 2/40.
[27210]:في ب: فإن قيل.
[27211]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/127.
[27212]:في الأصل: الأولى.
[27213]:في الأصل: ينطلق. وهو تحريف.
[27214]:تعالى: سقط من ب.
[27215]:نار: سقط من الأصل.
[27216]:في النسختين خالدا. وهو تحريف.
[27217]:[الجن: 23].
[27218]:في ب: والضلال.
[27219]:في ب: والجواب.
[27220]:في ب: والأمر. وهو تحريف.
[27221]:في ب: لم يمنع.
[27222]:اسم: سقط من ب.
[27223]:في ب: مجازا. وهو تحريف.
[27224]:في ب: فالجواب.
[27225]:في ب: قولك.
[27226]:يقال: سقط من ب.
[27227]:قلنا: سقط من ب.
[27228]:في الأصل: يروى.
[27229]:في ب: بالعقل. وهو تحريف.
[27230]:في ب: لا يتحقق أي لا يجوز.
[27231]:تعالى: سقط من ب.
[27232]:من هنا سقط من ب، وأشرت إليه من بدايته لكثرته.
[27233]:في الأصل: ضعيفا.
[27234]:في الأصل: لا.
[27235]:من الآية: (22) من سورة الأعراف.
[27236]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/127 – 128.
[27237]:في النسختين : وإن دل على قوله: وعصى وغوى. وهو تحريف.
[27238]:هو محمد بن عبيد. من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب، والأغلب عليه الأخبار وأكثر أخباره عن بني أمية وأيامهم، وكان العتبي شاعرا، وأصيب ببنين له فكان يرثيهم، وكان مستهترا بالشراب، مات سنة 228 هـ. المعارف 538.
[27239]:في النسختين: لم. والصواب ما أثبته.
[27240]:في الأصل: زاني.
[27241]:في النسختين: عاصي وغاوي.
[27242]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[27243]:في النسختين: أنه لا يجوز.
[27244]:الفخر الرازي 22/128.