الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ} (121)

" فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " تقدم في " الأعراف " {[11190]} .

وقال الفراء : " وطفقا " في العربية أقبلا ، قال : وقيل : جعل يلصقان عليهما ورق التين .

فيه ست مسائل :

الأولى-قوله تعالى : " وعصى " تقدم في " البقرة " {[11191]} في ذنوب الأنبياء . وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ، ونسبها إليهم ، وعاتبهم عليها ، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها ، واستغفروا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك ، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم ، وعلو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة ، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم ، ولا قدح في رتبتهم{[11192]} ، بل قد تلافاهم ، واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ، صلوات الله عليهم وسلامه .

الثانية-قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه ، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا ، المماثلين لنا ، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم ، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له .

قلت : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز ، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع ، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله ؛ ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " {[11193]} [ المائدة 64 ] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده ، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه ؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه .

الثالثة-روى الأئمة واللفظ [ لمسلم ]{[11194]} عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى ، أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا{[11195]} " قال المهلب قوله : " فحج آدم موسى " أي غلبه بالحجة . قال الليث بن سعد : إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه ، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له ، ولذلك قال آدم : أنت موسى الذي أتاك الله التوراة ، وفيها علم كل شيء ، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية ، وقدر علي التوبة منها ، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له : إن عثمان فر يوم أحد ، فقال ابن عمر : ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله : " ولقد عفا الله عنهم " {[11196]} [ آل عمران 155 ] وقد قيل : إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره ، فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين : " وصاحبهما في الدنيا معروفا " {[11197]} [ لقمان 5 1 ] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال له أبوه وهو كافر : " لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا . قال سلام عليك " {[11198]} [ مريم : 46 ] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى .

الرابعة-وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة ، فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم ، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك ، والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه ، ولوم المسيء على إساءته ، وتعديد ذنوبه عليه .

الخامسة-قوله تعالى : " فغوى " أي ففسد عليه عيشه ، حكاه النقاش واختاره القشيري . وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقول : " فغوى " ففسد عيشه بنزوله إلى الدنيا ، والغي الفساد ، وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول : " فغوى " معناه ضل ، من الغي الذي هو ضد الرشد . وقيل معناه جهل موضع رشده ، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ، والغي الجهل . وعن بعضهم " فغوى " فبشم من كثرة الأكل . الزمخشري : وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا ، فيقول في فني وبقي : فنَى وبقَى وهم بنو طيّ تفسير خبيث .

السادسة-قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال : عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو ، كما أن من خاط مرة يقال له : خاط ولا يقال له خياط ما لم تتكرر منه الخياطة . وقيل : يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه ، وهذا تكلف ، وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر ، أو ترك الأولى ، أو قبل النبوة .

قلت : هذا حسن . قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى : كان هذا من آدم قبل النبوة .


[11190]:راجع جـ 7 ص 177 وص 180.
[11191]:راجع جـ 1 ص 308 فما بعد وص 305.
[11192]:في ب وجـ و ز و ط: رتبهم.
[11193]:راجع جـ 6 ص 238.
[11194]:في الأصول: اللفظ البخاري. والتصويب عن صحيح مسلم.
[11195]:ثلاثا: أي قال النبي صلى الله عليه وسلم "فحج آدم موسى " ثلاث مرات.
[11196]:راجع جـ 4 ص 243.
[11197]:راجع جـ 14 ص 63.
[11198]:راجع ص 111 من هذا الجزء.