ثم قال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }
وهذه الآيات الكريمات ، وما بعدها في قصة " أحد " يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم ، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة ، امتحنوا ، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين ، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة ، حتى جعل الله العاقبة للمتقين ، والنصر لعباده المؤمنين ، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين ، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم .
{ فسيروا في الأرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية ، قد خوت ديارهم ، وتبين لكل أحد خسارهم ، وذهب عزهم وملكهم ، وزال بذخهم وفخرهم ، أفليس في هذا أعظم دليل ، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل ؟ "
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك تتحدث عن غزوة أحد وعن آثارها فى نفوس المؤمنين ، فبدأت بالإشارة إلى سنن الله فى المكذبين بآياته ؛ لتخفف عن المؤمنين مصابهم ، ثم أمرتهم بالصبر والثبات ونهتهم عن الوهن والجزع لأنهم هم الأعلون . وإن تكن قد أصابتهم جراح فقد أصيب المشركون بأمثالها ، والله - تعالى – ذكرأن ما حدث فى غزوة أحد حكم ، منها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء ، ومحق الكافرين . استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق تلك المعانى بأسلوبه الذى يبعث الأمل فى قلوب المؤمنين . ويرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم ، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ، ويخفف عنه آلامهم فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
وأصل الخلو فى اللغة : الانفراد . والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضا فى الزمان بمعنى المضى : لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
والسنن جمع سنة وهى الطريقة المستقيمة والمثال المتبع . وفى اشتقاق هذه اللفظة وجوه منها : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه . والسن الصب للماء . والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب ، فإنه لتوالى أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشىء الواحد " .
والمراد بالسنن هنا : وقائع فى الأمم المكذبة ، أجراها الله - تعالى - على حسب عادته ، وهى الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم عن أمره .
والمعنى : إنه قد مضت وتقررت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن ثابتة ، ونظم محكمة فيما قدره - سبحانه - من نصر وهزيمة ، وعزة وذلة ، وعقاب فى الدنيا وثواب فيها ، فالحق يصارع الباطل ، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنه - سبحانه - من سنة فى النصر والهزيمة .
وقد جرت سننه - سبحانه - فى خلقه أن يجعل العاقبة للمؤمنين الصادقين ، وأن يملى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
فإن كنتم فى شك من ذلك - أيها المؤمنون - { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .
أى : فسيروا فى الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التى انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم .
قالوا : وليس المراد بقوله { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا } الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير فى الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :
تلك آثارنا تدل علينا . . . فانظروا بعدنا إلى الآثار
والتعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام ، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التى تدعو إلى العجب ، وتثير الاستغراب ، وتغرس الاعتبار والاتعاظ فى قلوب المؤمنين ؛ لأن هؤلاء المكذبين . مكن الله لهم فى الأرض ، ومنحهم الكثير من نعمه . ولكنهم لم يشكروه عليها ، فأهلكهم بسبب طغيانهم .
فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التى تركها السابقون ، فإنها أصدق من رواية الرواة ومن أخبار المخبرين .
الخطاب بقوله تعالى : { قد خلت } للمؤمنين والمعنى : لا يذهب بكم ان ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين » وقديماً أدال الله المكذبين على المؤمنين ، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك ، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء ، وقال النقاش : الخطاب ب { قد خلت } للكفار .
قال الفقيه القاضي أبو محمد : وذلك قلق ، و { خلت } معناه : مضت وسلفت ، قال الزجّاج : التقدير أهل سنن ، و «السنن » : الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك ، وسنة الإنسان : الشيء الذي يعمله ويواليه ، ومن ذلك قول خلد الهذلي ، لأبي ذؤيب :
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّة أَنْتَ سِرْتَها . . . فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسيرُها{[3550]}
وإنَّ الأُلى بالطَّفِّ مِنْ آلِ هاشمٍ . . . تأسَّوْا فسَنُّوا للكرام التأسِّيَا{[3551]}
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباَؤُهُمْ . . . وَلكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإِمَامُهَا{[3552]}
وقال ابن زيد : { قد خلت من قبلكم سنن } معناه : أمثال .
قال الفقيه الإمام : هذا تفسير لا يخص اللفظة ، وقال تعالى : { فسيروا } وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين ، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره ، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل ، وقوله : { فانظروا } ، هو عند الجمهور من نظر العين ، وقال قوم : هو بالفكر{[3553]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.