لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا ، والنصارى أنه نصراني ، وجادلوا على ذلك ، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم ، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم .
الوجه الثاني : أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة ، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل ، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم ، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم ، فهل هذا يعقل ؟ ! فلهذا قال { أفلا تعقلون } أي : فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك .
الوجه الثالث : أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين ، وجعله حنيفا مسلما ، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته ، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه ، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم ، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم ، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين ، فليسوا من إبراهيم وليس منهم ، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب . وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم ، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه ، وفيها أيضا حث على علم التاريخ ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ .
ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر مخالفة أهل الكتاب لمقتضيات العقول السليمة وهو أنهم يجادلون فى أمر ليس عندهم أسباب العلم به فقال - تعالى - { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } .
والمعنى : أنتم يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة - سواء أكانت صحيحة أم فاسدة فى أمر لكم به علم فى الجملة ، كجدالكم فيما وجدتموه فى كتبكم من أمر موسى وعيسى - عليهما السلام - أو كجدالكم فيما جاء فى التوراة والإنجيل من أحكام ، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا فى أمر ليس لكم به علم أصلا ، وهو جدالكم فى دين إبراهيم وشريعته ؟ لأنه من البديهى أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا إذ وجوده سابق على وجودهما بأزمان طويلة .
وإذن فجدالكم فى شأن إبراهيم هو لون من ألوان جهلكم ومخالفتكم لكل ما تقتضيه العقول السليمة ، والنفوس المستقيمة .
وقوله - تعالى - { ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ } ها حرف تنبيه ، وأنتم مبتدأ ، وهؤلاء منادى بحرف نداء محذوف و { حَاجَجْتُمْ } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى . والمعنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم " فيما لكم به علم " مما نطق به التوراة والإنجيل . { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له . فى كتابيكم من دين إبراهيم . . . ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم " .
وتكرير هاء التنبيه فى قوله { ها أنتم هؤلاء } يشعر بغرابة ما هم عليه من جهل ، ومجافاته لكل منطق سليم .
قال الرازي : وقوله { ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون عمله ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة " .
وقوله - تعالى - { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تذييل قصد به تأكيد علم الله الشامل ، ونفى العلم عن أهل الكتاب فى شأن إبراهيم .
أى والله - تعالى - يعلم حال إبراهيم ودينه ، ويعمل كل شيء فى هذا الوجود ، وأنتم لا تعلمون ذلك .
واختلف القراء في قوله { ها أنتم } في المد والهمز وتركه ، فقرأ ابن كثير ، «هأنتم » ، في وزن هعنتم{[3228]} ، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم » استفهاماً بلا همز ، وقرأ الباقون ، «ها أنتم » ممدودا مهموزاً ، ولم يختلفوا في مد { هؤلاء } وأولاء ، فوجه قراءة ابن كثير ، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء ، أراد «أأنتم » ، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين ، يجوز أن تكون «ها » التي للتنبيه دخلت على «أنتم » ، ويكون التنبيه داخلاً على الجملة ، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت - يا - التي للتنبيه في قوله } ألا يا اسجدوا{ {[3229]} ، وفي قول الشاعر :
يَا قَاتَل َالله صِبياناً تجيءُ بِهِمْ . . . أمُّ الهُنَيِّدِ مِنْ زَنْدٍ لها وَاري{[3230]}
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِم . . . والصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ{[3231]}
وخففت الهمزة من «أنتم » ولم تحقق بعد الألف ، كما قالوا في هباءة هباة ، ويجوز أن تكون الهاء في { هأنتم } بدلاً من همزة الاستفهام ، كوجه قراءة ابن كثير ، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين ، لتفصل بينهما ، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم » مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو ، وحققوا الهمزة التي بعد الألف ، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع ، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو ، فينبغي أن تكون «ها » في قوله للتنبيه ولا تكون بدلاً من همزة الاستفهام ، وأما { هؤلاء } ففيه لغتان ، المد والقصر ، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات{[3232]} : [ الخفيف ]
هؤلا ثُمَّ هؤلاءِ قَدِ اعْطيتَ . . . نِعالاً مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ
وأما إعراب { ها أنتم هؤلاء } فابتداء وخبر ، و { حاججتم } في موضع الحال لا يستغنى عنها ، وهي بمنزلة قوله تعالى :
{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون }{[3233]} ويحتمل أن يكون { هؤلاء } بدلاً أو صفة ويكون الخبر { حاججتم } وعلى مذهب الكوفيين
{ حاججتم } ، صلة لأولاء والخبر في قوله : { فلم تحاجون } ومعنى قوله تعالى : { فيما لكم به علم } أي على زعمكم ، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته .
قال الفقيه الإمام : وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم ، كما كان هنالك على حقيقته ، وباقي الآية بين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.