تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (66)

لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا ، والنصارى أنه نصراني ، وجادلوا على ذلك ، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم ، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم .

الوجه الثاني : أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة ، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل ، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم ، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم ، فهل هذا يعقل ؟ ! فلهذا قال { أفلا تعقلون } أي : فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك .

الوجه الثالث : أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين ، وجعله حنيفا مسلما ، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته ، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه ، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم ، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم ، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين ، فليسوا من إبراهيم وليس منهم ، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب . وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم ، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه ، وفيها أيضا حث على علم التاريخ ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (66)

ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر مخالفة أهل الكتاب لمقتضيات العقول السليمة وهو أنهم يجادلون فى أمر ليس عندهم أسباب العلم به فقال - تعالى - { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } .

والمعنى : أنتم يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة - سواء أكانت صحيحة أم فاسدة فى أمر لكم به علم فى الجملة ، كجدالكم فيما وجدتموه فى كتبكم من أمر موسى وعيسى - عليهما السلام - أو كجدالكم فيما جاء فى التوراة والإنجيل من أحكام ، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا فى أمر ليس لكم به علم أصلا ، وهو جدالكم فى دين إبراهيم وشريعته ؟ لأنه من البديهى أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا إذ وجوده سابق على وجودهما بأزمان طويلة .

وإذن فجدالكم فى شأن إبراهيم هو لون من ألوان جهلكم ومخالفتكم لكل ما تقتضيه العقول السليمة ، والنفوس المستقيمة .

وقوله - تعالى - { ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ } ها حرف تنبيه ، وأنتم مبتدأ ، وهؤلاء منادى بحرف نداء محذوف و { حَاجَجْتُمْ } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى . والمعنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم " فيما لكم به علم " مما نطق به التوراة والإنجيل . { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له . فى كتابيكم من دين إبراهيم . . . ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم " .

وتكرير هاء التنبيه فى قوله { ها أنتم هؤلاء } يشعر بغرابة ما هم عليه من جهل ، ومجافاته لكل منطق سليم .

قال الرازي : وقوله { ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون عمله ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة " .

وقوله - تعالى - { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تذييل قصد به تأكيد علم الله الشامل ، ونفى العلم عن أهل الكتاب فى شأن إبراهيم .

أى والله - تعالى - يعلم حال إبراهيم ودينه ، ويعمل كل شيء فى هذا الوجود ، وأنتم لا تعلمون ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ حَٰجَجۡتُمۡ فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (66)

واختلف القراء في قوله { ها أنتم } في المد والهمز وتركه ، فقرأ ابن كثير ، «هأنتم » ، في وزن هعنتم{[3228]} ، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم » استفهاماً بلا همز ، وقرأ الباقون ، «ها أنتم » ممدودا مهموزاً ، ولم يختلفوا في مد { هؤلاء } وأولاء ، فوجه قراءة ابن كثير ، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء ، أراد «أأنتم » ، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين ، يجوز أن تكون «ها » التي للتنبيه دخلت على «أنتم » ، ويكون التنبيه داخلاً على الجملة ، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت - يا - التي للتنبيه في قوله } ألا يا اسجدوا{ {[3229]} ، وفي قول الشاعر :

[ البسيط ]

يَا قَاتَل َالله صِبياناً تجيءُ بِهِمْ . . . أمُّ الهُنَيِّدِ مِنْ زَنْدٍ لها وَاري{[3230]}

وقول الآخر : [ البسيط ]

يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِم . . . والصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ{[3231]}

وخففت الهمزة من «أنتم » ولم تحقق بعد الألف ، كما قالوا في هباءة هباة ، ويجوز أن تكون الهاء في { هأنتم } بدلاً من همزة الاستفهام ، كوجه قراءة ابن كثير ، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين ، لتفصل بينهما ، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم » مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو ، وحققوا الهمزة التي بعد الألف ، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع ، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو ، فينبغي أن تكون «ها » في قوله للتنبيه ولا تكون بدلاً من همزة الاستفهام ، وأما { هؤلاء } ففيه لغتان ، المد والقصر ، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات{[3232]} : [ الخفيف ]

هؤلا ثُمَّ هؤلاءِ قَدِ اعْطيتَ . . . نِعالاً مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ

وأما إعراب { ها أنتم هؤلاء } فابتداء وخبر ، و { حاججتم } في موضع الحال لا يستغنى عنها ، وهي بمنزلة قوله تعالى :

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون }{[3233]} ويحتمل أن يكون { هؤلاء } بدلاً أو صفة ويكون الخبر { حاججتم } وعلى مذهب الكوفيين

{ حاججتم } ، صلة لأولاء والخبر في قوله : { فلم تحاجون } ومعنى قوله تعالى : { فيما لكم به علم } أي على زعمكم ، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته .

قال الفقيه الإمام : وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم ، كما كان هنالك على حقيقته ، وباقي الآية بين .


[3228]:- في بعض النسخ: وزن فعلتم.
[3229]:- من الآية: (25) من سورة النمل.
[3230]:- البيت للقتال الكلابي، عبد الله بن المضرحي أحد شعراء القتال في العصر الأموي، (الشعر والشعراء: 591 والأغاني 20/185 والخزانة 3/ 667؛ وانظر ديوانه (بيروت 1961) ص: 57 وروايته: أم الهنيبر (واللسان والتاج: هنبر، زند) والزند: كنى به هنا عن الرحم.
[3231]:-ورد في الخزانة 4/ 479 (دون نسبة).
[3232]:- انظر ديوان الأعشى: 11
[3233]:- من الآية (85) من سورة البقرة.