تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } خير أو شر { إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي : مراقب له ، حاضر لحاله ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

ثم أكد - سبحانه - كل هذه المعانى بقوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أى : ما يتكلم هذا الإِنسان من كلام ، وما يفعل من فعل ، إلا ولديه ملك " رقيب " أى : حفيظ يكتب أقواله " عتيد " أى : مهيأ لذلك ، حاضر عنده لا يفارقه .

يقال : عَتُدَ الشئ - ككَرُمَ - عتادة وعتادا ، أى : حضر ، فهو عتَد وعَتِيدٌ ، ويتعدى بالهمزة وبالتضعيف ، فيقال : أعْتَدَه صاحبه وعتَّده ، إذا هيأه وأعده .

والمراد أن الملكين اللذين أحدهما عن يمينه والثانى عن شماله ، كلاهما مراقب لأعمال الإِنسان ، حاضر لكتابتها .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وقوله - سبحانه - : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }

وقوله - عز وجل - : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قال بعض العلماء ما ملخصه : وبعض العلماء يرى أن الملكين يكتبان كل شئ حتى الأنين فى المرض . . لأن قوله - تعالى - { مِن قَوْلٍ } نكرة فى سياق النفى فتعم كل قول . .

وبعضهم يرى أن الملكين لا يكتبان من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، وقالوا : إن فى الآية نعتا محذوفا ، سوغ حذفه العلم به ، لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب ، وتقدير النعت المحذوف : ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء إلا ولديه رقيب عتيد . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

{ ما يلفظ من قول } ما يرمي به من فيه . { إلا لديه رقيب } ملك يرقب عمله . { عتيد } معد حاضر ، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب وفي الحديث " كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول } قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : يكتب الملكان الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات ، والسيئات ، ويمحو غير ذلك ، وهذا هو ظاهر الآية ، قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : المعنى : { ما يلفظ من قول } خير أو شر ، وأما ما خرج من هذا فإنه لا يكتب والأول أصوب ، وروي أن رجلاً قال لجمله : " حل " {[10529]} ، فقال ملك اليمين لا أكتبها ، وقال ملك الشمال لا أكتبها ، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك ملك اليمين ، وروي نحوه عن هشام الحمصي وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه ببعيره ، فإن كان في طاعة فحل حسنة ، وإن كان في معصية فهي سيئة والمتوسط بين هذين عسير الوجود ولا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه .

وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن مقعد الملكين على الثنيتين ، قلمهما اللسان ، ومدادهما الريق »{[10530]} وقال الضحاك والحسن : مقعدهما تحت الشعر ، وكان الحسن يحب أن ينظف غفقته لذلك قال الحسن : حتى إذا مات طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً }{[10531]} [ الإسراء : 14 ] عدل والله عليه من جعله حسيب نفسه . والرقيب : المراقب . والعتيد : الحاضر .


[10529]:في اللسان:"يقال للناقة إذا زجرتها: حل جزم، وحل مُنون،…وقال ابن سيدة: ومن خفيف هذا الاسم: حَلْ وحلٍ لإناث الإبل خاصة". فهو صوت لزجر الناقة أو الجمل، وقال الجوهري في الصحاح: حل: زجر للناقة، وحوب: زجر للبعير".
[10530]:ذكره السيوطي في الدر المنثور عن علي رضي الله تعالى عنه موقوفا، قال: أخرج ابن أبي الدنيا في الصمت، عن علي رضي الله عنه، قال:( لسان الإنسان قلم الملك وريقه مداده)، وذكره مرفوعا من رواية أبي نعيم، والديلمي، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال:"إن الله لطّف الملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين، وجعل لسانه قلمهما، وريقه مدادهما". والناجذ: الضرس.
[10531]:من الآية(14) من سورة (الإسراء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

وجملة { ما يلفظ من قول } الخ مبينة لجملة { يتلقى المتلقيان } فلذلك فصلت . و { ما } نافية وضمير { يلفظ } عائد للإنسان .

واللفظ : النطق بكلمةٍ دالة على معنى ولو جزء معنى ، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى .

و { مِن } زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق . والاستثناء في قوله : { إلاّ لديه رقيب عتيد } استثناء من أحوال عامة ، أي ما يقول قولاً في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه .

والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله : { إلا لديه رقيب عتيد } لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يَكتب الحفظة إلاّ ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة . وقال الحسن : يكتبان كل ما صدر من العبد ، قال مجاهد وأبو الجوزاء : حتى أنينه في مرضه . وروي مثله عن مالك بن أنس . وإنما خص القولُ بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم .

وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم ، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته ، ونحو ذلك ، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها .

ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام ، ونهي الناس عن اتباع الحق ، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه ، وتغرير الأغرار ، ونحو ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم " ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين .

وجملة { إلاّ لديه رقيب عتيد } في موضع الحال ، وضمير { لديه } عائد إلى { الإنسان } [ ق : 16 ] ، والمعنى : لدى لفظه بقوله .

و { عتيد } فعيل من عتَد بمعنى هَيّأ ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد ، أي مُعَدّ كما في قوله تعالى : { وأعتدَتْ لهن مُتَّكأ } [ يوسف : 31 ] . وعندي أن { عتيد } هنا صفة مشبهة من قولهم ( عَتُد ) بضم التاء إذا جَسم وضَخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي { هذا ما لديّ عتيد } [ ق : 23 ] ويحصل محسّن الجناس التام بين الكلمتين . وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقّي في قوله : { المتلّقيان } بأنه تلّقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيراً حائماً حول جعل المفعول المحذوف لفعل { يتلقّى } ما دل عليه قوله بعده { ما يلفِظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء . فالتقدير عندهم : إذ يتلقى المتلقيان عَمل الإنسان وقوله ، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة { وجاءت سكرة الموت بالحق } [ ق : 19 ] كما سنبينه .

ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال : « ويحتمل أن يقال التلقّي الاستقبال ، يقال : فلان تلقى الركب ، وعلى هذا الوجه يكون معناه : وقت ما يتلقاه المتلقّيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من مَلَك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور ، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلَيْن يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان ، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله ، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : { سائق وشهيد } [ ق : 21 ] . فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملَك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة ، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم » اه .

وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم } [ الواقعة : 83 85 ] . ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملَك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها . والمظنون بفخر الدين أنه اطلع على ذلك ، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في « التذكرة » عن « مسند الطيالسي » عن البراء . وعن كتاب « النسائي » عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حُضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون : اخرجي راضية مرضيا عنك إلى رَوْح وريحان وربّ راضضٍ غير غضبان ، فإذا قبضه الملَك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء " وساق الحديث إلا أن في الحديث ملائكة جمعاً وفي الآية { المتلقيان } تثنية .

وعلى هذا الوجه يكون مفعول { يتلقى } ما دل عليه قوله بعده { وجاءت سكرة الموت } . والتقدير : إذ يتلقى المتلقّيان روح الإنسان . ويكون التعريف في قوله : { عن اليمين وعن الشمال } عوضاً عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد ، وهو على التوزيع ، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر . ويكون { قعيد } مستعملاً في معنى : قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول ، كقول الأزرق بن طرفة :

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطّويّ رماني

والاقتصار على { ما يلفظ من قول } حينئذٍ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجّر أو أنين أو شهادة بالتوحيد ، أو ضدها ، ومن ذلك الوصايا والإقرارات .