{ فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } .
والنكال : مصدر بمعنى التنكيل ، وهو العقاب الذى يجعل من رآه فى حالة تمتعه وتصرفه عما يؤدى إليه ، يقال : نَكَّلَ فلان بفلان ، إذا أوقع به عقوبة شديدة تجعله نكالا وعبرة لغيره وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد لقوله { فَأَخَذَهُ } ، لأن معناه نكل به ، والتعبير بالأخذ اللإشعار بأن هذه العقوبة كانت محيطة بالمأخوذ بحيث لا يستطيع التفلت منها .
والمراد بالآخرة : الدار الآخرة ، والمراد بالأولى : الحياة الدنيا .
أى : أن فرعون عندما تمادى فى تكذيبه وعصيانه وطغيانه . . كانت نتيجة ذلك أن أخذه الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر ، بأن أنزل به فى الآخرة أشد أنواع الإِحراق ، وأنزل به فى الدنيا أفظع ألوان الإِغراق .
وقدم - سبحانه - عذاب الآخرة على الأولى ، لأنه أشد وأبقى .
ومنهم من يرى أن المراد بالآخرة قوله لقومه : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } ، وأن المراد بالأولى تكذيبه لموسى - عليه السلام - أى ، فعاقبه الله - تعالى - على هاتين المعصيتين وهذا العقاب الأليم ، بأن أغرقه ومن معه جميعا . .
ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأقرب إلى ما تفيده الآية الكريمة ، إذ من المعروف أن الآخرة ، هى ما تقابل الأولى وهى دار الدنيا ، ولذا قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } أى : انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين فى الدنيا . ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ، كما قال - تعالى - : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } هذا هو الصحيح فى معنى الآية ، أن المراد بقوله : { نَكَالَ الآخرة والأولى } أى : الدنيا والآخرة . وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية . وقيل : كفره وعصيانه ، والصحيح الذى لا شك فيه الأول . .
{ نكال } منصور على المصدر ، قال قوم { الآخرة } قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] ، و { الأولى } قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، وروي أنه مكث بعد قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] أربعين سنة ، وقيل هذه المدة بين الكلمتين ، وقال ابن عباس : { الأولى } قوله : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] ، و { الآخرة } قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] وقال ابن زيد : { الأولى } الدنيا ، و { الآخرة } : الدار الآخرة ، أي أخذه الله بعذاب جهنم وبالغرق في الدنيا ، وقال مجاهد : عبارة عن أول معاصيه وكفره وآخرها أي نكل بالجميع ، و { نكال } نصب على المصدر ، والعامل فيه على رأي سيبويه «أخذ » لأنه في معناه ، وعلى رأي أبي العباس المبرد فعل مضمر من لفظ { نكال } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأخذه الله} بعقوبة قوله: {نكال الآخرة والأولى}... الأولى قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص:38] والآخرة قوله: {أنا ربكم الأعلى}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فأخَذَهُ اللّهُ" فعاقبه الله "نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى" يقول عُقوبة الآخرة من كلمتيه، وهي قوله: "أنا رَبّكُمُ الأعْلَى"، والأولى قوله: "ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي"... وقال آخرون: عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، عجّل الله له الغرق، مع ما أعدّ له من العذاب في الآخرة. وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به، والآخرة قوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... منهم من يقول: أخذه بعقوبة ما تقدم من الإجرام وما تأخر إلى أن غرق. ومنهم من يقول: أخذه بالعقوبة في الدنيا والآخرة؛ فغرّقه في الدنيا، وعذبت روحه بعد مماته بقوله: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} [غافر: 46] ويدخل في النار مع أتباعه بقوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] فاتصلت عقوبة الدنيا بعقوبة الآخرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نَكَالَ} هو مصدر مؤكد، ك (وعد الله)، و (صبغة الله)؛ كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل... يعني الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأخذه الله} أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له: {نكال الآخرة} فهو مصدر من المعنى، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن- عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل: "الأخرى " لوافقت {والأولى} أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له- ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأمام هذا التطاول الوقح، بعد الطغيان البشع، تحركت القوة الكبرى: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى).. ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى.. لأنه أشد وأبقى. فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده.. ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي.. ولأنه يتسق لفظيا مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنويا مع الموضوع الرئيسي، ومع الحقيقة الأصيلة. ونكال الأولى كان عنيفا قاسيا. فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق؛ فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحقيقة الأخذ: التناول باليد، ويستعار كثيراً للمقدرة والغلبة كما قال تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42] وقال: {فأخذهم أخذةً رابية} [الحاقة: 10]. والمعنى: فلم يُفلت من عقاب الله...
فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب، قال تعالى: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} في سورة البقرة (66)...
وقد استُعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكالٌ يوم القيامة. وورود فعل « أخذه» بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مُراعىً فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.