فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَى لَهُمَا } غير طالب منهما الأجرة ، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى ، فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } مستريحا لذلك الظلال بعد التعب .
{ فَقَالَ } في تلك الحالة ، مسترزقا ربه { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي . وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال ، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا . وأما المرأتان ، فذهبتا إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما جرى .
وبعد أن سمع موسى منهما هذه الإجابة ، سارع إلى معاونتهما - شأن أصحاب النفوس الكبيرة ، والفطرة السليمة ، وقد عبر القرآن عن هذه المسارعة بقوله : { فسقى لَهُمَا } .
أى : فسقى لهما مواشيهما سريعا . من أجل أن يريحهما ويكفيهما عناء الانتظار وفى هذا التعبير إشارة إلى قوته ، حيث إنه استطاع وهو فرد غريب بين أمة من الناس يسقون - أن يزاحم تلك الكثرة من الناس ، وأن يسقى للمرأتين الضغيفتين غنمهما . دون أن يصرفه شىء عن ذلك .
رحم الله صاحب الكشاف . فقد أجاد عند عرضه لهذه المعانى . فقال ما ملخصه : " قوله : { فسقى لَهُمَا } أى : فسقى غنمهما لأجلهما . وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال . . فأقله وحده .
وإنما فعل ذلك رغبة فى المعروف وإغاثة للملهوف والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء ، وقد ازدحمت عليه أمة من الناس ، متكافئة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم ، مع غنمهما مترقبتين لفراغهم . فما أخطأت همته فى دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، بقوة قلبه ، وبقوة ساعده .
فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور فى قوله { يَسْقُونَ } و { تَذُودَانِ } قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقى ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا .
فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله ؟ قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب فى ذلك أننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فلا بد لنا من تأخير السقى إلى أن يفرغوا ، ومالنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ كبير ، فقد أضعفه الكبر ، فلا يصلح للقيام به ، فهما قد أبدتا إليه عذرهما فى توليهما السقى بأنفهسما .
فإن قلت : كيف ساغ لنبى الله الذى هو شعيب - عليه السلام - أن يرضى لابنتيه بسقى الماشية ؟ قلت ، الأمر فى نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون فى ذلك .
والعادات متباينة فيه . . وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم . ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة . . .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } فقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } بيان لما فعله موسى وقاله بعد أن سقى للمرأتين غنمهما .
أى : فسقى موسى للمرأتين غنمهما ، ثم أعرض عنهما متجها إلى الظل الذى كان قريبا منه فى ذلك المكان ، قيل كان ظل شجرة وقيل ظل جدار .
فقال : على سبيل التضرع إلى ربه : ياربى : إنى فقير ومحتاج إلى أى خير ينزل منك على سواء أكان هذا الخير طعاما أم غيره .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ } أى : لأي شىء تنزله من خزائن كرمك إلى { مِنْ خَيْرٍ } جل أو قل ، { فَقِيرٌ } أى : محتاج ، وهو خبر إن . وعدى باللام لتضمنه معنى الاحتياج . و ( ما ) نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها . والرابط محذوف ، و { مِنْ خَيْرٍ } بيان لها والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه ، بسبب ما ناله من شدة الجوع .
يدل لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما سقى موسى للجاريتين ، ثم تولى إلى الظل . فقال : رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ، وإنه يومئذ فقير إلى كف من تمر " .
قال الله تعالى : { فَسَقَى لَهُمَا } قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الله ، أنبأنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن عَمْرو{[22239]}
بن ميمون الأوْدي ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن موسى ، عليه السلام ، لما ورد ماء مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون ، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين تذودان ، قال : ما خطبكما ؟ فحدثتاه ، فأتى الحجر فرفعه ، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم . إسناد صحيح{[22240]} .
وقوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيًا فما وصل مَدْيَن حتى سقطت نعل قدمه . وجلس{[22241]} في الظل وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة .
وقوله : { إِلَى الظِّلِّ } قال ابن عباس ، وابن مسعود ، والسدي : جلس تحت شجرة .
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيّ{[22242]} ، حدثنا أبي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حَثثتُ{[22243]} على جمل ليلتين ، حتى صَبَّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا شجرة خضراء ترف ، فأهوى إليها جملي - وكان جائعا - فأخذها جملي فعالجها ساعة ، ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى ، عليه السلام ، ثم انصرفت{[22244]} .
وفي رواية عن ابن مسعود : أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها لموسى ، كما سيأتي والله{[22245]} أعلم .
وقال السدي : كانت من شجر السَّمُر .
وقال عطاء بن السائب : لما قال موسى { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، أسمعَ المرأة .
ومعنى { فسقى لهما } أنه سقى ما جئن ليسقينه لأجلهما ، فاللام للأجل ، أي لا يدفعه لذلك إلا هما ، أي رأفة بهما وغوثاً لهما . وذلك من قوة مروءته أن اقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من الإعياء عند الوصول .
والتولي : الرجوع على طريقه ، وذلك يفيد أنه كان جالساً من قبل في ظل فرجع إليه . ويظهر أن { تولى } مرادف ( ولى ) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فكيون { تولى } أشد من ( ولى ) ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى { ولى مدبراً } في سورة [ النمل : 10 ] .
وقد أعقب إيواءه إلى الظل بمناجاته ربه إذ قال { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } . لما استراح من مشقة المتح والسقي لماشية المرأتين والاقتحام بها في عدد الرعاء العديد ، ووجد برد الظل تذكر بهذه النعمة نعماً سابقة أسداها الله إليه من نجاته من القتل وإيتائه الحكمة والعلم ، وتخليصه من تبعة قتل القبطي ، وإيصاله إلى أرض معمورة بأمة عظيمة بعد أن قطع فيافي ومفازات ، تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء وهي { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } . والفقير : المحتاج فقوله { إني لما أنزلت إلي من خير } شكر على نعم سلفت .
وقوله { إني لما أنزلت إلي من خير } ثناء على الله بأنه معطي الخير .
والخير : ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب ، قال تعالى { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } [ التوبة : 85 ] .
وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل { أنزلت } المشعر برفعة المعطَى . فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم .
ومن الخير إنجاؤه من القتل ، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته ، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعاً بمنافعها مجنباً رذائلها وأضرارها . ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده ، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلماً ، وأن هداه إلى منجى من الأرض ، ويسر له التعرف ببيت نبوءة ، وأن آواه إلى ظل .
و ( ما ) من قوله { لما أنزلت إلي } موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله { أنزلت } لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفاً غير نكرة ، فقوله ( ما أنزلت إلي ) بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله { فقير } أي فقير لذلك النوع من الخير ، أي لأمثاله .
وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن .
فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته ، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله { فجاءته إحداهما } [ القصص : 25 ] .