تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }

يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة ، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل ، والحلال والحرام ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم ، في سيرهم الحميدة ، وأفعالهم السديدة ، وشمائلهم الكاملة ، وتوفيقهم التام . فلذلك نفذ ما أراده ، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم ، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل .

{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا{[206]}  من الوقوف على ما حده الله ، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده .

ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه ، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له . فله الحمد والشكر على ذلك .

وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كامل الحكمة ، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ومنها هذه الأشياء والحدود . ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة .


[206]:- في ب: تتمكنوا.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

وبعد أن بين - سبحانه - فيما سبق من آيات كثيراً من الأوامر والنواهى والمحرمات والمباحات . . عقب ذلك ببيان جانب من مظهر فضله على عباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله . . . . ضَعِيفاً } .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )

قوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، وقد ساقه - سبحانه - لإِيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام .

قال الآلوسى : ومثل هذا التركيب - قوله { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } . وقع فى كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب :

فقيل مفعول { يُرِيدُ } محذوف أى : يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه . واللام للتعليل . . . نسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين .

فتعلق الإِرادة غير التبيين ، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف .

وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك ، كما قيل به فى قولهم : " تسمع بالمعيدى خير من أن تراه " أى إرادتى كائنة للتبين . وفيه تكلف .

وذهب الكوفيون إلى أن اللام هى الناصبة للفعل من غير إضمار أن ، وهى وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى : يريد الله البيان لكم .

والمعنى : يريد الله - تعالى - بما شرع لكم من أحكام ، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم ، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح .

وقوله : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } معطوف على ما قبله .

والسنن : جمع سنة وهى الطريقة وفى أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق .

أى : ويهديكم مناهد وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين ، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم .

وليس المراد أن جميع ما شرعه من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة . بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم فى حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم ، فكذلك قد شرع لنا ما نحن فى حاجة إليه وما يحقق مصالحنا ، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة فى ذاتها إلا أنها متفقة فى باب المصالح .

وقوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } معطوف على ما قبله .

والتوبة معناها : ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود ، وذلك مستحيل فى حقه - سبحانه - لذا قالوا : المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها . أو المراد بها قبول التوبة .

أى : ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص ، فقد تكفل - سبحانه - لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفى التعبير عن قبول التوبة بقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب ، ومنع لكشفها ، فهى غطاء على المعاصى يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها فى النفس :

فالآية الكريمة تحريض على التوبة ، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس .

بطرق بابها وبالإِكثار منها . .

وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى والله - تعالى - ذو علم شامل لجميع الأشياء ، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم ، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم ، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك { حَكِيمٌ } يضع الأمور فى مواضعها . فيبين لمن يشاء ، ويهدى من يشاء ، ويتوب على من يشاء .

فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده ، حيث كشفت للناس أن الله - تعالى - يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التى كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر ، وأن يرشدهم إلى سبل من تقدمهم من أهل الحق ، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما{[7153]} أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : طرائقهم الحميدة واتباع{[7154]} شرائعه التي يحبها ويرضاها { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم{[7155]} والمحارم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله .


[7153]:في جـ، ر، أ: "فيما".
[7154]:في ر: "في اتباع".
[7155]:في ر، أ: "المأثم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (26)

اختلف النحاة في اللام من قوله : { ليبين } فمذهب سيبويه رحمه الله : أن التقدير «لأن يبين » والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن » لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن » وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [ الطويل ]

أريدُ لأنسى ذكرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[3966]}

وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى . { ويهديكم } بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال { سنن } : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً ، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة{[3967]} .

والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن { عليم } هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و { حكيم } أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .


[3966]:- الشاعر هو كثير عزة، وهذا جزء من أول البيت، وتمامه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل والفراء يرى أن العرب تعاقب بين لام (كي) و(أن)، فتأتي باللام التي على معنى (كي) في موضع (أن) في: أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، لأنهما يطلبان المستقبل، وفي التنزيل: [وأمرت لأعدل بينكم]. [يريدون ليطفئوا نور الله]، [يريدون أن يطفئوا نور الله]، وعلى ذلك يكون معنى بيت كثير عنده: أريد أن أنسى- قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول، وقال: لو كانت اللام بمعنى [أن] لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشدنا. أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وابن عطية على رأي الزجاج، وهو مذهب سيبويه، ولهذا علّق على رأي الفراء والكوفيين بقوله: "وهو ضعيف". هذا والبيت الذي أنشده الزجاج لقيس بن عبادة، وكان قد طاول روميا بين يدي معاوية فتجرد قيس من سراويله وألقاها إلى الرومي ففضلت عنه، وقال هذا البيت ومعه بيت آخر يعتذر من إلقاء سراويله في المشهد المجموع. راجع اللسان- مادة (سرل)
[3967]:- اختلف العلماء في قوله تعالى: [سنن الذين من قبلكم]- هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم أو على التشبيه، أي: سننا مثل سنن الذين من قبلنا؟ فمن قال إنه على ظاهره أراد أن السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة، وقيل: المراد بها ما ذكره سبحانه في قوله: [شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا]. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين. وعلى هذه الأقوال فالمراد بـ [الذين من قبلكم]: الأنبياء وأهل الخير- ومن قال إن ذلك على التشبيه أراد أن المعنى أن طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكذلك جعل طريقنا إلى شرائع الدين بالبيان والتفصيل-وقيل: الهداية في أحد أمرين... وهو الذي وضحه ابن عطية.