{ 61 - 62 } { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }
كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله : { تَبَارَكَ } ثلاث مرات لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة الباري وكثرة أوصافه ، وكثرة خيراته وإحسانه . وهذه السورة فيها من الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته . وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا } وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة وهي بمنزلة البروج والقلاع للمدن في حفظها ، كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين .
{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور والحرارة وهو الشمس . { وَقَمَرًا مُنِيرًا } فيه النور لا الحرارة وهذا من أدلة عظمته ، وكثرة إحسانه ، فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها ، وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على كثرة خيراته .
ثم رد - سبحانه - على تطاولهم وجهلهم بما يدل على عظيم قدرته - عز وجل - وعلى جلال شأنه - تعالى - فقال : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } .
والبروج : جمع برج ، وهى فى اللغة : القصور العالية الشامخة ، ويدل لذلك قوله - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } والمراد بها هنا : المناظل الخاصة بالكواكب السيارة ، ومداراتها الفلكية الهائلة ، وعددها اثنا عشر منزلا ، هى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجى ، والدلو ، والحوت .
وسميت بالبروج . لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها .
والسراج : الشمس ، كما قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } أى : جل شأن الله - تعالى - وتكاثرت آلاؤه ونعمه ، فهو - سبحانه - الذى جعل فى السماء " بروجا " أى : منازل للكواكب السيارة و " جعل فيها " أى : فى السماء " سراجا " وهو الشمس " وجعل فيها " - أيضا - " قمرا منيرا " أى : قمرا يسطع نوره على الأرض المظلمة ، فيبعث فيها النور الهادى اللطيف .
يقول تعالى ممجدا نفسه ، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج - وهي الكواكب العظام - في قول مجاهد ، وسعيد بن جُبير ، وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة .
وقيل : هي قصور في السماء للحرس ، يروى هذا عن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وإبراهيم النخعي ، وسليمان بن مِهْران الأعمش . وهو رواية عن أبي صالح أيضا ، والقول الأول أظهر . اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس ، فيجتمع القولان ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] ؛ ولهذا قال : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } وهي الشمس المنيرة ، التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال : { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [ النبأ : 13 ] .
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } أي : مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر ، غير نور الشمس ، كما قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يونس : 5 ] ، وقال مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [ نوح : 15 - 16 ] .
{ تبارك الذي جعل في السماء بروجا } يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه منا لتبرج لظهوره . { وجعل فيها سراجا } يعني الشمس لقوله { وجعل الشمس سراجا } وقرأ حمزة والكسائي " سرجا " وهي الشمس والكواكب الكبار . { وقمرا منيرا } مضيئا بالليل ، وقرىء { وقمرا } أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب و العرب .
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته ، و «البروج » هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة{[8864]} وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله { والقمر قدرناه منازل }{[8865]} [ يس : 39 ] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجاً تشبيهاً ببروج السماء . ومنه قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيّدة }{[8866]} [ النساء : 78 ] . وقال الأخطل : [ البسيط ]
كأنها برج روميّ يشيدُه . . . لز بجص وآجور وأحجار{[8867]}
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها «البروج » القصور في الجنة ، وقال الأعمش : كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «في السماء قصوراً » ، وقيل «البروج » الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح ، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص ، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به . وقرأ الجمهور «سراجاً » وهي الشمس ، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش «سرجاً » وهو اسم جميع الأنوار ، ثم خص القمر بالذكر تشريفاً ، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضاً «سرْجاً » بسكون الراء ، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن «وقُمُراً » بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعاً كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي{[8868]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.