ثم قال تعالى مُعَظِّما لشأن ليلة القدر ، التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها ، فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }
قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدّاني{[30261]} عن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سَوّدتَ وجوهَ المؤمنين - أو : يا مسود وجوه المؤمنين - فقال : لا تؤنبني ، رحمك الله ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أريَ بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } يا محمد ، يعني نهرًا في الجنة ، ونزلت : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يملكها بعدك بنو أمية يا محمد . قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يومًا ولا تنقص يومًا{[30262]} . ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل ، وهو ثقة ، وثقه يحيى القطان وابن مهدي . قال : وشيخه يوسف بن سعد - ويقال : يوسف بن مازن - رجل مجهول ، ولا نعرف هذا الحديث ، على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه . وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه ، من طريق القاسم{[30263]} بن الفضل ، عن يوسف بن مازن ، به{[30264]} وقول الترمذي : " إن يوسف هذا مجهول " فيه نظر ؛ فإنه قد روى عنه جماعة ، منهم : حماد بن سلمة ، وخالد الحذاء ، ويونس بن عبيد . وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور ، وفي رواية عن ابن معين [ قال ]{[30265]} هو ثقة . ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل ، عن عيسى بن مازن ، كذا قال ، وهذا يقتضي اضطرابًا في هذا الحديث ، والله أعلم . ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدًا ، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزّي : هو حديث منكر .
قلت : وقول القاسم بن الفضل الحُدّاني{[30266]} إنه حسب مُدّة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص ، ليس بصحيح ؛ فإنّ معاويةَ بن أبي سفيان ، رضي الله عنه ، استقل بالملك حين سَلّم إليه الحسن بن علي الإمرة سنةَ أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية ، وسمي ذلك عام الجماعة ، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها ، لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريبًا من تسع سنين ، لكن لم تَزُل يدهم عن الإمرة بالكلية ، بل عن بعض البلاد ، إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة ، وذلك أزيد من ألف شهر ، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير ، وعلى هذا فتقارب ما قاله الصحة في الحساب ، والله أعلم .
ومما يدلّ على ضَعف هذا الحديث أنَّه سِيقَ لذم دولة بني أمية ، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق ؛ فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذَم أيامهم ، فإنّ ليلة القدر شريفة جدًا ، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر ، فكيف تُمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة ، بمقتضى هذا الحديث ، وهل هذا إلا كما قال القائل :
ألَم تَرَ أنّ السيف ينقُصُ قَدْرُه *** إذا قِيل إنّ السيف أمضَى مِن العَصَا
إذا أنتَ فَضَّلتَ امرأ ذا بَرَاعَة *** عَلى نَاقص كَانَ المديحُ منَ النَّقص
ثم الذي يفهم من ولاية{[30267]} الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية ، والسورة مكية ، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية ، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها ؟ ! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة ، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته ، والله أعلم{[30268]} .
وقوله : { وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } يقول : وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : العمل في ليلة القدر بما يرضي الله ، خير من العمل في غيرها ألفَ شهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : بلغني عن مجاهد { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر .
قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، قوله : { خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قال : عملٌ فيها خير من عمل ألف شهر .
وقال آخرون : معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } ليس فيها ليلة القدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حَكّام بن سلم ، عن المُثَنّى بن الصّبّاح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتي يُمْسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الاَية : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمر ذلك الرجل .
حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سُهيل ، قال : حدثنا سَلْم بن قُتيبة ، قال : حدثنا القاسم بن الفضل ، عن عيسى بن مازن ، قال : قلت للحسن بن عليّ رضي الله عنه : يا مسوّد وجوه المؤمنين ، عمدت إلى هذا الرجل ، فبايعت له - يعني معاوية بن أبي سفيان - فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي في منامه بني أميّة يَعْلُون منبره خليفة خليفة ، فشقّ ذلك عليه ، فأنزل الله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } و { إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ } يعني مُلْكَ بني أمية ، قال القاسم : فحسبنا مُلْكَ بني أمية ، فإذا هو ألف شهر .
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال : عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر ، ليس فيها ليلة القَدْر . وأما الأقوال الأخر ، فدعاوَى معانٍ باطلة ، لا دلالة عليها من خبر ولا عقل ، ولا هي موجودة في التنزيل .
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة .
وكلمة ( ما أدراك ما كذا ) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار ( 17 ) قريباً . والواو واو الحال .
وأعيد اسم { لَيْلَةُ القدر } الذي سَبق قريباً في قوله : { في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] على خلافِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: { وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } يقول: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر. "خير من ألف شهر" .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ؛ فقال بعضهم : معنى ذلك : العمل في ليلة القدر بما يرضي الله ، خير من العمل في غيرها ألفَ شهر ...
وقال آخرون : معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر ...
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال : عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر ، ليس فيها ليلة القَدْر ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ وما أدراك ما ليلة القدر } هذا يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : ما كنت تدري حتى أدراك ، كقوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ( هود : 49 ) . ( والثاني ) : قوله : { وما أدراك } على التعظيم لها والتعجيب ، والله أعلم . وقيل : نزول هذه الآية على معنى التسلي ، أعطاه فضل هذه الليلة والعمل بها ....
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ } تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها ، وحثّاً على العمل فيها ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني : ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وما أدراك } أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص { ما ليلة القدر } أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى عليّ قدرها على ما لك من سعة العلم ، وإحاطة الفكر ، وعظيم المواهب . ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعِرُ بهِ . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : ( وما أدراك ما ليلة القدر ? )وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإفاضة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة . وكلمة ( ما أدراك ما كذا ) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار ( 17 ) قريباً . والواو واو الحال . وأعيد اسم { لَيْلَةُ القدر } الذي سَبق قريباً في قوله : { في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] على خلافِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ليلة القدر سرّ من أسرار الله { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه ، لأن ذلك سرّ الله في الزمان كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص. ...