وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين ، أنهم ما يودون { أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ } أي : لا قليلا ولا كثيرا { مِنْ رَبِّكُمْ } حسدا منهم ، وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه { ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ومن فضله عليكم ، إنزال الكتاب على رسولكم ، ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فله الحمد والمنة .
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى ما يضمره لهم المشركون وأهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود - من شرور وأحقاد فقال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ . . . }
{ مَّا يَوَدُّ } أي : ما يحب ، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه ، يقال : ود فلان كذا يوده وداً ومودة بمعنى أحبه وتمناه .
قال صاحب الكشاف : " ومن الأولى في الآية للبيان ، لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان ، أهل الكتاب والمشركون ، والثانية مزيدة لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية " .
وقوله - تعالى - : { مَّا يَوَدُّ } . . إلخ الآية بيان لما يبيته الكافرون - خصوصاً اليهود - للمسلمين من حقد وكراهية وتحذير لهم من الاطمئنان إليهم ، والثقة بهم .
وفي التعبير بقوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أمرتهم كتبهم بصديقه واتباعه .
وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام - أيضاً - يضاهون كفرة أهل الكتاب ، في كراهة نزول أي خير على المؤمنين ، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم من دون قويم ، وقرآن كريم ، وهداية عظمى ، وأخوة شاملة ، وأمن بعد خنوف ، وقوة بعد ضعف .
والخير : النعمة والفضل ، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحي الصادق ، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع .
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم ، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم .
والمشركون كرهوا ذلك - أيضاً - لأن في انتشار الإِسلام ، وفي تنزيل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإِسلامية ، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها .
وقوله تعالى : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } .
رد عليهم بما يكشف عن جهلهم وجهل جميع الحاسدين ، لأن الحاسد لغباوته يسخط على قدر الله ، ويعترض عليه لإِنعامه - سبحانه - على المحسود والله - تعالى - هو صاحب التصرف المطلق في الإِعطاء والمنع فكان من الواجب على هؤلاء الذين لا يودون أن ينزل أي خير على المؤمنين أن يريحوا أنفسهم من هذا العناء ، وأن يتحولوا عن ذلك الغباء ، لأن الله - تعالى - يهب خيره لمن يشاء .
والاختصاص بالشيء : الانفراد به ، تقول : اختص فلان بكذا أي انفرد به ، ويستعمل متعدياً إلى المفعول به ، فتقول : اخصصت فلانا بكذا أي أفردته به وجعلته مقصوراً عليه .
وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص في الآية الكريمة .
وقدي - سبحانه - اختصاص رحمته بمن يشاء ليعلم الناس جميعاً ، أن إفراد بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها ، وليس لأحد كائناً من كان أي تأثير في ذلك .
ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه . أي : يختص برحمته من يشاء اختصاصه بها ، وهي تتناول النبوة . والقرآن ، والنصر ، وكل ذلك مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين .
وقوله تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييل لما سبق أي كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده - تعالى - يتفضل به عليهم ، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم ، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم على أن آتاه الله النبوة ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إني أصطفى للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأماني ، ولكني أهبها لمن هو أهل لها .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافرون من حقد وبغضاء وبشرتهم بأن ما يبيتونه لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم ، وسنة نبيهم .
ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن موضوع النسخ الذي أثار اليهود حوله الشبهات ، وجادلوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم .
لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية ، أو حكماً بحكم ، وقالوا : ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غداً ، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد ، يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً .
وقوله تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يبين بذلك تعالى شدة عداوة{[2483]} الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم . وينبِّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل ، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
{ مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
يعني بقوله : { ما يَوَدّ } ما يحبّ ، أي ليس يحبّ كثير من أهل الكتاب ، يقال منه : ودّ فلان كذا يَوَدّ وُدّا ووَدّا ومودّةً . وأما «المشركين » فإنهم في موضع خفض بالعطف على أهل الكتاب .
ومعنى الكلام : ما يحبّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . وأما أنْ في قوله : { أنْ يُنَزّلَ } فنصب بقوله : يَودّ . وقد دللنا على وجه دخول «مِن » في قوله : مِنْ خَيْرٍ وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
فتأويل الكلام : ما يحبّ الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله ينزلهم عليكم . فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته ، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين .
وفي هذه الآية دلالة بيّنة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم وقبول شيء مما يأتونهم به ، على وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جلّ ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } والله يختصّ من يشاء بنبوّته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه ، فيتفضل بالإيمان على من أحبّ فيهديه له . واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه . وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته ، وفوزه بها بالجنة واستحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من الله له .
وأما قوله : { وَاللّهُ ذو الفَضْلِ العَظِيمِ } فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداءً وتفضلاً منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه .
وفي قوله : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضلاً منه ، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ولكنها مواهب منه يختصّ بها من يشاء من خلقه .
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير . والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي . والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك والله يختص برحمته من يشاء يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق { والله ذو الفضل العظيم } إشعار بأن النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته .
فصله عما قبله لاختلاف الغرضين ، لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين . ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد .
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } فقالوا : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبيء والمسلمين من خير ، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [ البقرة : 91 ] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ .
و ( الود ) بضم الواو المحبة ومن أحب شيئاً تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب .
وذكر { الذين كفروا } هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معاً تمهيداً لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] الآيات . ونبه بقوله : { الذين كفروا من أهل الكتاب } دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبيء المقفي على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبيء صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود .
ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله : { الذين كفروا من أهل الكتاب } قد يوهم كون البيان قيداً وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله : { ولا المشركين } كالاحتراس وليكون جمعاً للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } [ البقرة : 114 ] وقرأ الجمهور ( أن ينزل ) بتشديد الزاي مفتوحة . والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجماً لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجاً . وقرأه ابن كثير وابن عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضاً وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجماً .
والخير النعمة والفضل ، قال النابغة : *فلست على خير أتاك بحاسد * وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله : { والله يختص برحمته } .
وقوله : { والله يختص برحمته من يشاء } عطف على { ما يود } لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه .
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصاً غير عام سواء خص واحداً أو أكثر . ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة .
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من تعلقات العلم الإلاهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها مَن خلقه قابلاً لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئاً فشيئاً قال تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماًوعلماً } [ يوسف : 22 ] وقال : { الله حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالماً بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده . ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقاً بأفهام المخاطبين .
وقوله : { والله ذو الفضل العظيم } تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة ، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب}... وذلك أن الأنصار دعوا حلفاءهم من اليهود إلى الإسلام، فقالوا للمسلمين: ما تدعون إلى خير مما نحن عليه، وددنا أنكم على هدى، وأنه كما تقولون، فكذبهم الله سبحانه، فقال: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته}، يعني: دينه الإسلام.
{من يشاء}، نظيرها {يدخل من يشاء في رحمته} (الانسان: 31) يعني:في دينه الإسلام، فاختص المؤمنين.
{والله ذو الفضل العظيم} فاختصهم لدينه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: {ما يَوَدّ}: ما يحبّ، أي ليس يحبّ كثير من أهل الكتاب، يقال منه: ودّ فلان كذا يَوَدّ وُدّا ووَدّا ومودّةً. وأما «المشركين» فإنهم في موضع خفض بالعطف على أهل الكتاب.
ومعنى الكلام: ما يحبّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم. وأما "أنْ "في قوله: {أنْ يُنَزّلَ} فنصب بقوله: يَودّ...
فتأويل الكلام: ما يحبّ الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله ينزلهم عليكم. فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.
وفي هذه الآية دلالة بيّنة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم وقبول شيء مما يأتونهم به، على وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جلّ ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.
{وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}: والله يختصّ من يشاء بنبوّته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحبّ فيهديه له. واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته، وفوزه بها بالجنة واستحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من الله له.
{وَاللّهُ ذو الفَضْلِ العَظِيمِ}: خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداءً وتفضلاً منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه.
وفي قوله: {وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضلاً منه، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ولكنها مواهب منه يختصّ بها من يشاء من خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أن ينزل عليكم من خير من ربكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يهوون ويحبون أن يبعث الرسول من أولاد إسرائيل، وهم كانوا من نسله، فلما بعث من أولاد إسماعيل عليه السلام على خلاف ما أحبوا وهووا لم تطب أنفسهم بذلك، بل كرهت، وأبت أشد الإباء والكراهية.
والثاني: لم يحبوا ذلك لما كانت تذهب منافعهم التي كانت لهم والرئاسة بخروجه صلى الله عيه وسلم، والله أعلم.
{والله ذو الفضل العظيم} والمفضل عند الخلق، هو الذي يعطي، ويبذل ما ليس عليه لا ما عليه؛ لأن من عليه شيء فأعطاه، أو قضى [ما] عليه من الدين لا يوصف بالإفضال، فدل أنه استوجب ذلك الاختصاص، وذلك الفضل لما لم يكن عليه ذلك. ولو كان لكان يقول: ذو العدل لا ذو الفضل.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} والاختصاص أوكد من الخصوص، لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصِلَةٌ مُستَدامةٌ، ولكن الحسود لا يسود، ولا يحصُل له مقصود. وخصائص الرحمة للأولياء كافية...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ومعنى الآية، أن الأنبياء قبله بعثوا من ولد إسحاق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل؛ لم يقع ذلك بودّ اليهود ومحبتهم. وأما المشركون فإنما لم تقع نبوته بودهم، لأنه جاء بتضليلهم، وعيب آلهتهم...
{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم} يعني عليك يا محمد. ذكر الواحد بخطاب الجمع على ما هو عادة العرب
{والله يختص برحمته من يشاء} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: الرحمة بمعنى النبوة هاهنا. وقيل: بمعنى الإسلام. والهداية إليه.
{والله ذو الفضل العظيم} الفضل ابتداء إحسان بلا علة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً، وقال قوم: الرحمة هي القرآن، وقال قوم: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية...
الخير: الوحي وكذلك الرحمة، يدل عليه قوله تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك} المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي.
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{والله ذو الفضل العظيم} إشعار بأن النبوة من الفضل، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال، علل بعلة أخرى فقال: {ما يود الذين كفروا} مطلقاً {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى {ولا} من المشركين بأي نوع كان من أنواع الشرك بغضاً فيكم حسداً لكم
{أن ينزل عليكم} وأكد الاستغراق بقوله: {من خير من ربكم} أي المحسن إليكم، فكأنه قيل: للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه: إحداهما أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلاً عن أن تمتثلوه ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة،
ولم يعطف {ما يود} لأنه مع ذلك علة للعلة، فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيراً؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه...
ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقاً الأمر بالاسم الأعظم الجامع:
{والله} أي ما يودون والحال أن ذا الأسماء الحسنى {يختص} ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله: {برحمته} التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك
{من يشاء} أي يجعله مختصاً أي منفرداً بها من بين الناس، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم؛
والاختصاص: عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره،
والرحمة: نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكف الأذى...
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدراً له بالاسم الأعظم أيضاً عاطفاً على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال تعريضاً باليهود: فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم
{والله} أي الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفوء له {ذو الفضل العظيم} أي الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقول تعالى للمؤمنين: إن هؤلاء الذين علمتم شأنهم مع أنبيائهم حسدة، لا يلتفت إلى تكذيبهم ولا يبالي بعدوانهم، ولا يضركم كفرهم وعنادهم، فهم لحسدهم لا يودون أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم، والقرآن أعظم الخيرات، لأنه النظام الكامل، والفضل الشامل، والهداية العظمى، والآية الكبرى، جمع شملكم، ووصل حبلكم، ووحد شعوبكم وقبائلكم، وطهر عقولكم من نزغات الوثنية، وزكى نفوسكم من أدران الجاهلية، وأقامكم على سنن الفطرة، وشرع لكم الحنيفية السمحة. فيكف لا يحرق الحسد عليه أكبادهم ويخرج أضغانهم عليكم وأحقادهم؟...
ثم إن الله تعالى رد عليهم بما بين جهلهم وجهل جميع الحاسدين فقال {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} أي أن الحاسد لغباوته وفساد طويته يكون ساخطا على الله تعالى ومعترضا عليه أن أنعم على المحسود بما أنعم، ولا يضر الله تعالى سخط الساخطين، ولا يحول مجاري نعمه حسد الحاسدين فالله يختص برحمته من يشاء من عباه، والله ذو الفضل العظيم – أسند كلا من هذين الأمرين إلى اسم الذات الأعظم لبيان أنهما حقه لذاته فليس لأحد من عبيده أدنى تأثير في منحهما ولا في منعهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل. ليحذروا أعداءهم، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه...
ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر.. وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير. وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين. هو أن يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم هذا القرآن، ويحبوهم بهذه النعمة، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود...
فالله أعلم حيث يجعل رسالته؛ فإذا اختص بها محمدا [ص] والمؤمنين به، فقد علم -سبحانه- أنه وأنهم أهل لهذا الاختصاص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل، ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد...
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم {آمنوا بما أنزل الله} فقالوا: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبيء والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: {قل فلم تقتلون أنبئاء الله} [البقرة: 91] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ...
ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله: {الذين كفروا من أهل الكتاب} قد يوهم كون البيان قيداً وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله: {ولا المشركين} كالاحتراس وليكون جمعاً للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114]... وقوله: {والله يختص برحمته من يشاء} عطف على {ما يود} لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه...
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم...
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من تعلقات العلم الإلاهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي...
ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقاً بأفهام المخاطبين...
وقوله: {والله ذو الفضل العظيم} تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن المشركين عبدة الأوثان لم ينزل عليهم كتاب بعد إبراهيم عليه السلام، واليهود أهل كتاب سماوي ثم حرفوه من بعده، ونسوا حظا منه وزادوا عليه أوهاما من عندهم، وكتموا جزءا كبيرا مما بأيديهم. إن هؤلاء المشركين واليهود جمعهم أمران: أحدهما الكفر، والثاني بغض محمد صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به، فإذا فرقهم العلم بكتاب سماوي، فقد جمعهم كفر وبغض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}...
وقدم سبحانه وتعالى أهل الكتاب على المشركين؛ لأن الكلام كان في أهل الكتاب؛ ولأنهم أشد جحودا وإعناتا؛ ولأن الجحود منهم وهم أهل كتاب أشد من جحود غيرهم الذين لم يؤتوا كتابا؛ فالجهل قد يكون عذرا أحيانا، وإن لم يكن هنا عذرا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وفي ختام هذا الربع توضح الآية الكريمة النية السيئة التي يبيتها الكافرون من أهل الكتاب والمشركين للمسلمين، وتشير إلى أنهم يريدون صرفهم عن الدعوة الإسلامية بجميع الوسائل، وشغلهم عنها بالخرافات والأوهام والأماني، وبتعلم السحر وما شابهه مما لا خير فيه ولا نفع من ورائه، حتى لا يستنيروا بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، والعلم والحكمة، فيفتحوا أعينهم على آفاق الكون الواسعة ورحابه الشاسعة، ويقيموا في الأرض دولة العلم والعدل والتقوى {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. وسيأتي في الربع القادم آية أخرى لها صلة وثيقة بهذا المعنى، وهي قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} لكن الله خيب سعيهم، وصدق المؤمنين الصادقين وعده، فقال تعالى: {وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: بيان عداوة غير المسلمين للمسلمين؛ لأنه تعالى ذكر صنفين ينتظمان جميع الأصناف: أهل الكتاب. وهم اليهود، والنصارى.؛ والمشركين. وهم كل أصحاب الأوثان؛ فكل هؤلاء أعداء للمسلمين؛ لأنهم لا يودون الخير للمسلمين.
ومنها: أنه يجب علينا أن نحذر من كل تصرف يصدر عن اليهود، والنصارى، والمشركين، ونتخذهم أعداءً، وأن نعلم أنهم بجميع تصرفاتهم يحاولون أن يمنعوا الخير عن المسلمين...
ومنها: أن هؤلاء الكفار يودون أن يمنعوا عن المسلمين التقدم...
ومنها: أنه يحرم على المسلمين أن يُوَلُّوا هؤلاء الكفار أيّ قيادة؛ لأنهم ما داموا لا يودون لنا الخير فلن يقودونا لأيّ خير مهما كان الأمر؛ ولهذا يحرم أن يجعل لهم سلطة على المسلمين لا في تخطيط، ولا في نظام، ولا في أي شيء؛ بل يجب أن يكونوا تحت إمرة المسلمين، وتحت تدبيرهم ما أمكن؛ وإذا استعنا بهم فإنما نستعين بهم لإدراك مصالحنا وهم تحت سلطتنا؛ لأنهم لو استطاعوا أن يمنعوا القطر وينبوع الأرض عن المسلمين لفعلوا؛ إذاً فيجب علينا الحذر من مخططاتهم، وأن نكون دائماً على سوء ظن بهم؛ لأن إحسان الظن بهم في غير محله؛ وإنما يحمل عليه الذل، وضعف الشخصية، والخور، والجبن؛ ولهذا قال تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}؛ وهي شاملة لخير الدنيا، والآخرة؛ فاليهود حسدوا المسلمين لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونزل عليهم هذا الكتاب...
ومن فوائد الآية: أن خير الله لا يجلبه ودّ وادّ، ولا يرده كراهة كاره؛ لقوله تعالى: {والله يختص برحمته من يشاء}؛ فلا يمكن لهؤلاء اليهود، والنصارى، والمشركين أن يمنعوا فضل الله علينا؛ وعلى هذا جاء الحديث الصحيح:"واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك؛ ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"...
ومنها: أن الإنسان الذي لا يود الخير للمسلمين فيه شبه باليهود، والنصارى؛ لأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية يريد اللّه أن ينفذ بالمسلمين إلى أعماق الكفّار من أهل الكتاب والمشركين، ليعرِّفهم أنَّ القضية قد تحوّلت في وعي هؤلاء إلى عقدة ذاتية مستعصية يختلط فيها البغي والحسد، فلم تعد القضية لديهم قضية الإيمان والكفر كشيء يتصل بالحقيقة في العقيدة والحياة، بل عادت مجرّد حالةٍ نفسية معقدة ضدّ المسلمين كجماعة تواجه جماعة من مواقع السلطة والغلبة، فلا يريدون لهم أن يُنزَّل عليهم خير من اللّه، ولا سيما النبوّة التي ورد في بعض الرِّوايات تفسير الخير بها، ولكنَّنا نعتبر ذلك من التفسير التطبيقي الذي يُراد به الإيحاء بأفضل المصاديق أو أبرزها في الدلالة على المعنى، فإنَّ من البديهي هنا اعتبار النبوّة من أبرز مجالات الخير النازل من اللّه عليهم إن لم يكن أبرزها، لأنها تمثّل المركز الأسمى الذي يُعتبر فيه الإنسان الرسول صلة الوصل الروحي والرسالي بين اللّه وبين عباده، كما تتحوّل الجماعة المؤمنة من خلاله إلى قائدةٍ للمجتمعات الأخرى وشاهدة على النّاس.
أمّا في مجال الحياة الواسع، فإنها تجمع للإنسان كلّ خطوات الخير ووسائله وموارده ومصادره مما يحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا ما لا يريده الكفّار للمسلمين بفعل حقدهم وعداوتهم وحسدهم، ولكنّ اللّه لا يتّبع أهواءهم في ما يريد وفي ما لا يريد، بل هو الحكيم الرحيم الذي يُجري الأمور على وفق الحقّ ويختص برحمته من يشاء، فلا ينسى عباده المؤمنين من فضله، واللّه ذو الفضل العظيم...
إذا كان لنا استيحاء شيء من هذه الآية يتصل بحياتنا العملية في الحاضر والمستقبل، فقد نجد أنّ بإمكاننا الانطلاق إلى الواقع الذي يواجهه المسلمون في كلّ زمان ومكان في صراعهم مع الفئات الأخرى ممن ينتمون إلى الأديان الأخرى أو إلى المبادئ الكافرة الملحدة، فنلاحظ أنَّ علينا النفاذ إلى الأعماق في دراستنا للحالة النفسية التي يعيشونها تجاهنا، ومدى ما تمثّله من مواقف عملية في السرّ والعلن، مما يدخل في عداد المخططات التي تُعدّ ضدّ تقدّم المسلمين وتطوّرهم وامتدادهم في الآفاق الواسعة الصاعدة في الحياة، وبذلك نستطيع الوصول إلى النتائج الملموسة التي توضح لنا كيف يشعر الآخرون بالخطورة من قوّة الإسلام والمسلمين، لما في ذلك من انعكاساتٍ خطيرة على موقعهم الفكري والسياسي وعلى النطاق الحضاري بشكل عام، تماماً كما هي الحال في الكفّار القدامى من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخافون من قوّة النبيّ محمَّد (ص) وتعاظم الإسلام على امتيازاتهم الذاتية والطبقية ومواقعهم الفكرية. وفي هذا الجوّ، نشعر بالحاجة إلى الحذر الإيجابي الواعي إزاء كلّ الأساليب المتنوّعة المغلّفة بغلافات ناعمةٍ من اللطف والرقة والعاطفة، الملوّنة بألوان من الحضارة والتقدّم والتنمية والتطوير... وما إلى ذلك من الأساليب التي يريد الآخرون من المستعمرين والكافرين، بشكل عام، أن ينفذوا منها إلى حياة الأمّة، ليدمروا قيمها الروحية من الداخل، وليسيطروا على مقدّراتها المادية والمعنوية كسبيل من سُبُل إضعاف كلّ طاقاتها الحضارية التي تتحرّك من أجل صنع حضارةٍ إسلامية جديدة في المستقبل، كما صنعت حضارة الإنسان في الماضي البعيد.
ومن النقاط المهمة التي ينبغي التركيز عليها في هذا المجال، هي أنَّ الحذر لا يعني السلبية التي تبعدنا عن الارتباط بالعالم من حولنا، بل يعني اليقظة والوعي والمراقبة لكلّ الأساليب والأوضاع والتحرّكات المحيطة بنا، بعينٍ يَقِظَةٍ نفّاذة ناقدةٍ، وبروحٍ واعيةٍ لا تعيش بساطة الفكر وسذاجته في عالَم لا يتعامل مع الحياة إلاَّ من خلال التعقيد، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نعيش عفويّة الروح وبساطتها في جوٍّ يحقّق للإنسان معنى إنسانيته في رحاب اللّه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مغزى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أكثر من ثمانين موضعاً خاطب الله المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإِسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب الله الجماعة المؤمنة بعبارة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّها بعد الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والانصياع لأوامر ربّ العالمين، والاستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام...