{ 26-30 } { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }
يقول تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } من البر والإكرام الواجب والمسنون وذلك الحق يتفاوت بتفاوت الأحوال والأقارب والحاجة وعدمها والأزمنة .
{ وَالْمِسْكِينَ } آته حقه من الزكاة ومن غيرها لتزول مسكنته { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به عن بلده ، فيعطي الجميع من المال على وجه لا يضر المعطي ولا يكون زائدا على المقدار اللائق فإن ذلك تبذير قد نهى الله عنه وأخبر :
قال أبو حيان فى البحر : " لما أمر الله - تعالى - ببر الوالدين ، أمر بصلة القرابة . قال الحسن : نزلت فى قرابة النبى صلى الله عليه وسلم . والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر . . . } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه : ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم " .
والمراد بذوى القربى : من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا .
والمسكين : هو من لا يملك شيئا من المال ، أو يملك ما لا يسد حاجته ، وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية ، لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل ، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " .
وابن السبيل : هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك - كما يقول الآلوسى - لملازمته السبيل - أى : الطريق - فى السفر . أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته .
وهذا النوع من الناس - أيضا - فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة ، حتى يستطيع الوصول إلى بلده .
وفى هذا الامر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
والمعنى : وأعط - أيها العاقل - ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر ، وصلة الرحم ، والمعاونة ، والزيارة ، وحسن المعاشرة ، والوقوف إلى جانبهم فى السراء والضراء ، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف .
وأعط - كذلك - المسكين وابن السبيل حقوقهما التى شرعها الله - تعالى - لهما ، من الإِحسان إليهما ، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما .
وقدم - سبحانه - الأقارب على غيرهم ، لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم .
روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ، عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذى الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } نهى عن وضع المال فى غير موضعه الذى شرعه الله - تعالى - مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه فى الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، ثم استعير لتضييع المال فى غير وجوهه .
قال صاحب الكشاف : التبذير تفريق المال فيما لا ينبغى ، وإنفاقه على وجه الإِسراف ، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها فى الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك فى أشعارها ، فأمر الله - تعالى - بالنفقة فى وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .
وقال ابن كثير : وقوله { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } : لما أمر بالإِنفاق نهى عن الإِسراف فيه ، بل يكون وسطا ، كما قال - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق فى غير حق . وكذا قال ابن عباس .
وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا . ولو أنفق مُدا فى غير حقه كان تبذيرا .
لما ذكر تعالى بر الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، كما تقدم في الحديث : " أمك وأباك ، ثم أدناك أدناك " وفي رواية : " ثم الأقرب فالأقرب " .
وفي الحديث : " من أحب أن يبسط له رزقه{[17427]} وينسأ له في أجله ، فليصل رحمه " {[17428]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا أبو يحيى التيمي{[17429]} حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال لما نزلت ، هذه الآية { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها " فدك " . ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي{[17430]} وحميد بن حماد بن أبي الخوار{[17431]} {[17432]} .
وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ؛ لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ !
وقد تقدم الكلام على المساكين وابن السبيل في " سورة براءة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
قوله [ تعالى ]{[17433]} { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه ، بل يكون وسطًا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان : 67 ] .
القول في تأويل قوله تعالى { وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً * إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله وآتِ ذَا القُرْبى فقال بعضهم : عَنى به : قرابة الميت من قِبل أبيه وأمه ، أمرا الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرانُ بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا حبيب المعلم ، قال : سأل رجل الحسن ، قال : أُعْطِي قرابتي زكاة مالي ، فقال : إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة ، ثم تلا هذه الاَية وآت ذا القُرْبى حَقّهُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال : صلته التي تريد أن تصله بها ما كنت تريد أن تفعله إليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ قال : هو أن تصل ذا القربة والمسكين وتحسُن إلى ابن السبيل .
وقال آخرون : بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المَزنيّ ، عن السّديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أفما قرأت في بني إسرائيل وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال : وإنكم للقْرابة التي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتي حقه ؟ قال : نعم .
وأولى التأويلين عندي بالصواب ، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم ، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقّب ذلك عقيب حَضّه عباده على بر الاَباء والأمّهات ، فالواجب أن يكون ذلك حَضّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر . وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه ، وبرّك به ، والعطف عليه . وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله ، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه : وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما فوجّه الخطاب بقوله وَقَضَى رَبّكَ إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فرجع بالخطاب به إلى الجميع ، ثم صرف الخطاب بقوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ إلى إفراده به . والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عمّ به هو وجميع أمته .
وقوله : والمِسْكِينَ وهو الذلّة من أهل الحاجة . وقد دللنا فيما مضى على معنى المسكين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله وَابْنَ السّبِيلِ يعني : المسافر المنقطع به ، يقول تعالى : وصِل قرابتك ، فأعطه حقه من صلتك إياه ، والمسكين ذا الحاجة ، والمجتاز بك المنقطع به ، فأعنه ، وقوّه على قطع سفره . وقد قيل : إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام .
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب ، لأن الله تعالى لم يخصُصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فذلك عامّ في كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره .
وقوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا يقول : ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا . وأصل التبذير : التفريق في السّرَف ومنه قول الشاعر :
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْ *** أعاصِيرَ مِنْ فِسْقِ العِرَاقِ المُبَذّرِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي العبيدين ، قال : قال عبد الله في قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : التبذير في غير الحقّ ، وهو الإسراف .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين ، قال : سُئل عبد الله عن المبذّر فقال : الإنفاق في غير حقّ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن أبي العبُيدين ، ضرير البصر ، أنه سأل عبد الله بن مسعود عن هذه الاَية ولا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : إنفاق المال في غير حقه .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين ، كان ضرير البصر ، سأل ابن مسعود فقال : ما التبذير ؟ فقال : إنفاق المال في غير حقه .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا المسعودي ، قال : أخبرنا سلمة بن كُهيل ، عن أبي العُبيدين ، وكانت به زَمانة ، وكان عبد الله يعرف له ذلك ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ما التبذير ؟ فذكر مثله .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو الحوءَب ، عن عمار بن زُريق ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرِب ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن التبذير : النفقة في غير حقه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن كثير العنبري ، قال : حدثنا شعبة ، قال : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة ، فأتى على دار تُبنى بجصّ وآجر ، فقال : هذا التبذير في قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : المبذّر : المنفق في غير حقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد ، عن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : المبذّر : المنفق في غير حقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : لا تنفق في الباطل ، فإن المبذّر : هو المسرف في غير حقّ .
قال ابن جريج وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحقّ ما كان تبذيرا ، ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : التبذير : النفقة في معصية الله ، وفي غير الحقّ وفي الفساد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكينَ وَابْنَ السّبِيلِ قال : بدأ بالوالدين قبل هذا ، فلما فرغ من الوالدين وحقهما ، ذكر هؤلاء وقال لا تُبَذّرْ تَبْذِيرا : لا تعطِ في معاصي الله .
{ وآت ذا القربى حقّه } من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم . وقال أبو حنيفة : حقهم إذا كانوا محارم فقراء أن ينفق عليهم . وقيل المراد بذي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم . { والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيرا } بصرف المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف ، وأصل التبذير التفريق . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد وهو يتوضأ : ما هذا السرف قال : أو في الوضوء سرف قال : نعم وإن كنت على نهر جار " .
اختلف المتأولون في «ذي القربى » ، فقال الجمهور : الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم ، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد الأمة ، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم ، وقال علي بن الحسين في هذه : هم قرابة النبي عليه السلام ، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، ويعضده العطف ب { المسكين وابن السبيل } . { وابن السبيل } هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا ، «وابن السبيل » في آية الصدقة أخص .
{ وءات ذا القربى حقه والمسكين ابن السبيل }
القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة .
وللقرابة حقّان : حق الصلة ، وحق المواساة . وقد جمعهما جنس الحق في قوله ؛ { حقه } . والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى .
والخطاب لغير معين مثل قوله : { إما يبلغن عندك الكبر } [ الإسراء : 23 ] .
والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله : { ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين } [ الإسراء : 25 ] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله : { وآت ذا القربى } تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات ، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع . والجملة معطوفة على جملة { ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] لأنها من جملة ما قضى الله به .
والإيتاء : الإعطاء . وهو حقيقة في إعطاء الأشياء ، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة . ومنه قول النبي : ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها الحديث .
وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ .
وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها : من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء ، ومن غير واجبة مثل الإحسان .
وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها . ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس . وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبي .
والتعريف في { القربى } تعريف الجنس ، أي القربى منك ، وهو الذي يعبر عنه بأن ( ال ) عوض عن المضاف إليه . وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة .
وحق المسكين هو الصدقة . قال تعالى : { ولا تحضون على طعام المسكين } [ الفجر : 18 ] وقوله : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 14 16 ] . وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها .
و{ ابن السبيل } هو المسافر يمر بحي من الأحياء ، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته .
وحقوق الأضياف جاءت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة " وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنّه إبراهيم عليه السلام قال الحريري : « وحُرمة الشيخ الذي سَن القِرى » .
وقد جعل لابن السبيل نصيب من الزكاة .
وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا مما أوصى الله به بقوله : { وقضى ربك } الآيات [ الإسراء : 23 ] .
فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعياً لاتحاد المنبت القريب وشدًّا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة .
وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذبها عن حوزتها .
وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء ، على أن ذلك المسكين لا يعدو أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية .
وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع ، لأن المارّ به من غير بنيه بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلاً ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص ، وإلى الطعام والدفء أو التظلل وقاية من إضرار الجوع والقر أو الحر .
لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفاً عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة .
ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به ، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه ، فهذا وإن كان غرضاً مهماً من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه ، وكونه مقصوداً بالوصاية أيضاً لذاته . ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله : { وإما تعرضن عنهم } الآية ، [ الإسراء : 28 ] ثم يعود الكلام إلى ما يبين أحكام التبذير بقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [ الإسراء : 29 ] .
وليس قوله : { ولا تبذر تبذيراً } متعلقاً بقوله : { وآت ذا القربى حقه } الخ . . لأنّ التبذير لا يوصف به بذل المال في حقّه ولو كان أكثر من حاجة المعطى ( بالفتح ) .
فجملة { ولا تبذر تبذيرا } معطوفة على جملة { ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] لأنها من جملة ما قضى الله به ، وهي معترضة بين جملة { وآت ذا القربى حقه } الآية وجملة { وإما تعرضن عنهم } الآية [ الإسراء : . 2 ] ، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به .
والتبذير : تفريق المال في غير وجهه ، وهو مرادف الإسراف ، فإنفاقه في الفساد تبذير ، ولو كان المقدار قليلاً ، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير ، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير . وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير : لا خير في السرف ، فأجابه المنفق : لا سرف في الخير ، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس .
ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جُعل عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات . وكان نظام القصد في إنفاقه ضَامِنَ كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمِن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجاً ، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيراً بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف ، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر ءَاتتٍ من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة ، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظاً لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة ، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة .
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله ، قال تعالى : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] ، واكتساب المحمدة بين قومه . وقديماً قال المثل العربي نعم العون على المروءة الجِدة . وقال . . . اللهم هب لي حمداً ، وهب لي مجداً ، فإنه لا حَمد إلا بِفعال ، ولا فِعال إلا بمال .
والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عُدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نِير سلطانه .
ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } [ النساء : 5 ] ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء ، لقوله بعده : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] فأضافها إليهم حين صاروا رشداء .
وما مُنع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير . ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى .
وذكر المفعول المطلق { تبذيراً } بعد { ولا تبذر } لتأكيد النهي كأنه قيل : لا تبذر ، لا تبذر ، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضاراً لما تُتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد .