تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (4)

وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ } لم يزل يدبرها ويرقيها وينميها حتى صارت بشرا تاما كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، قد غمره بنعمه الغزيرة ، حتى إذا استتم فخر بنفسه وأعجب بها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } يحتمل أن المراد : فإذا هو خصيم لربه ، يكفر به ، ويجادل رسله ، ويكذب بآياته . ونسي خلقه الأول وما أنعم الله عليه به ، من النعم فاستعان بها على معاصيه ، ويحتمل أن المعنى : أن الله أنشأ الآدمي من نطفة ، ثم لم يزل ينقله من طور ، إلى طور حتى صار عاقلا متكلما ، ذا ذهن ورأي : يخاصم ويجادل ، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (4)

ثم ساق - سبحانه - دليلا آخر على انفراده بالألوهية عن طريق خلق الإِنسان فقال : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .

والمراد بالإِنسان هنا جنس الإِنسان .

وأصل النطفة : الماء الصافى .

أو الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها : نطف ونطاف . يقال : نطفت القربة إذا قطرت ، أى سال منها الماء وتقاطر .

والمراد بالنطفة هنا : المنى الذى هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة .

والخصيم : الكثير الخصام لغيره ، فهو صيغة مبالغة . يقال : خصم الرجل يخصم - من باب تعب - إذا أحكم الخصومة ، فهو خصم وخصيم .

والمبين . المظهر للحجة ، المفصح عما يريده بألوان من طريق البيان .

أى : خلق - سبحانه - الإِنسان . من مَنِىٍّ يُمنى ، أو من ماء مهين خلقا عجيبا فى أطوال مختلفة ، لا يجهلها عاقل ، ثم أخرجه بقدرته من بطن أمه إلى ضياء الدنيا ، ثم رعاه برعايته ولطفه إلى أن استقل وعقل .

حتى إذا ما وصل هذا الإِنسان إلى تلك المرحلة التى يجب معها الشكر لله - تعالى - الذى رباه ورعاه ، إذا به ينسى خالقه ، ويجحد نعمه ، وينكر شريعته ، ويكذب رسله ويخاصم ويجادل بلسان فصيح من بعثه الله - تعالى - لهدايته وإرشاده ، ويقول - كما حكى القرآن عنه - : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ . . } وإذا فى قوله - سبحانه - { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } . هى التى تسمى بإذا الفجائية التى يؤتى بها لمعنى ترتب الشئ ، على غير ما يظن أن يترتب عليه .

وجئ بها هنا لزيادة التعجيب من حال الإِنسان ، لأنه كان المنتظر منه بعد أن خلقه الله - تعالى - بقدرته ، ورباه برحمته ورعايته ، أن يشكر خالقه على ذلك ، وأن يخلص العبادة له ، لكنه لم يفعل ما كان منتظرا منه ، بل فعل ما يناقض ذلك من الإِشراك والمجادلة فى أمر البعث وغيره .

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } وقوله - تعالى - : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (4)

ثم نبه على خلق جنس الإنسان { مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ضعيفة مهينة ، فلما استقل ودَرَج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدًا لا ضدًا ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } [ الفرقان : 54 ، 55 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 77 ، 79 ] .

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بُسْر بن جَحَّاش قال : بصق رسول الله في كفه ، ثم قال : " يقول الله : ابن آدم ، أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : أتصدقُ . وأنى أوان الصدقة ؟ " {[16319]} .


[16319]:المسند (4/210) وسنن ابن ماجه برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365): "إسناد صحيح رجاله ثقات، ورواه أحمد في مسنده من حديث بسر، وأصله في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين }

يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيضا أيها الناس ، أنه خلق الإنسان من نطفة ، فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا ، قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث ، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تم خلقه ونفخ فيه الروح ، فغذاه ورزقه القوت ونماه ، حتى إذا استوى على سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضر ولا ينفع وخاصم إلهه فقال { من يحي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] ونسي الذي خلقه فسواه خلقا سويا من ماء مهين .

ويعني بالمبين : أنه يبين عن خصومته بمنطقه ويجادل بلسانه ، فذلك إبانته . وعنى بالإنسان : جميع الناس ، أخرج بلفظ الواحد وهو في معنى الجميع .