وإذا كان الأميون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله وعدم التجرئ على الأموال المحترمة ، كانوا هم المحبوبين لله ، المتقين الذين أعدت لهم الجنة ، وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم ، بخلاف الذين يقولون ليس علينا في الأميين سبيل ، فإنهم داخلون في قوله : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده ، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الآية ، فهؤلاء { لا خلاق لهم في الآخرة } أي : لا نصيب لهم من الخير { ولا يكلمهم الله } يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا ، لتقديمهم هوى أنفسهم على رضا ربهم { ولا يزكيهم } أي : يطهرهم من ذنوبهم ، ولا يزيل عيوبهم { ولهم عذاب أليم } أي : موجع للقلوب والأبدان ، وهو عذاب السخط والحجاب ، وعذاب جهنم ، نسأل الله العافية .
ثم توعد الله - تعالى - الذين يخونون العهود ، ويحلفون كذبا بالعذاب الأليم ، ونعى على فريق من اليهود تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وأنذرهم بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ . . . . } .
روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } الآية روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على مال امرىء مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان " قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه من كتاب الله ، { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } إلخ .
وفى رواية قال : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ، فأنزل الله - تعالى - تصديق ذلك { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } . قال عبد الله : فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا : كذا وكذا . فقال : صدق . فى نزلت ، كان بينى وبين رجل خصومة فى بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ؟ قلت : إنه إذاً يحلف ولا يبالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان " ، ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .
وروى البخارى عن عبد الله بن أوفى أن رجلا أقام سلعة فى السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .
وقال الفخر الرازى : قال عكرمة إنها نزلت فى أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم فى التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا " .
هذه ثلاث روايات فى سبب نزول تلك الآية الكريمة ، وأرجحها رواية الشيخيين ، ولذا وجب الأخذ بها إلا أن نزول الآية فى قصة معينة لا يمنع شمول حكمها لكل ما يشبه هذه القصة أو الحادثة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب-كما يرى جمهور العلماء - .
فكل من حلف بالله كاذبا ، واشترى بعهده - سبحانه - ثمنا قليلا حقت عليه العقوبة التى بينتها الآية الكريمة . ويدخل تحت هذه العقوبة دخولا أوليا أولئك اليهود الذين خانوا عهد الله بإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعرفون صدقه معرفة جليلة .
والمراد بقوله { يَشْتَرُونَ } أى يستبدلون ، وذلك لان المشترى يأخذ شيئاً ويعطى شيئاً . فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر . والمراد { بِعَهْدِ الله } كل ما يجب الوفاء به ، فيدخل فيه ما أوجبه الله - تعالى - على عباده من فرائض وتكاليف ، ومن إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، كما يدخل فيه - أيضاً - ما أوجبه الله على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذى يجدون نعته فى كتبهم ، ويعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم .
والباء فى قوله - تعالى - { بِعَهْدِ الله } داخلة على المتروك الذى تركوه وأخذوا فى مقابله الثمن القليل .
وقوله { وَأَيْمَانِهِمْ } معطوف على عهد الله .
والمراد بأيمانهم تلك : الأيمان الكاذبة التى يحلفونها ليؤكدوا ما يريدون تأكيده من أقوال أو أفعال .
والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو المال والمنافع الزائلة ، التى أخذوها نظير تركهم لعهود الله ، وحلفهم الكاذب .
وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل المحصل نظير خيانة عهود الله تحقيراً له ، إذ أنه لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أغراض الدنيا بجانب رضا الله والوفاء بعهوده .
وقوله { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أى الذين يخونون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في مقابل عرض من أعراض الدنيا ، لا نصيب لهم ولاحظ من نعيم الآخرة بسبب ما ارتكبوه من غدر وافتراء .
وقوله { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } أى لا يكلمهم بما يسرهم بل يكلمهم بما يسوؤهم ويخزيهم يوم القيامة بسبب أعمالهم السيئة .
أو أن عدم كلام الله - تعالى -لهم : كناية عن عدم محبته لهم ، لأن من عادة المحب أن يقبل على حبيبه ويتحدث إليه ، أما المبغض لشىء ، فإنه ينصرف عنه .
وإلى هذا المعنى ذهب الإمام الرازى فقد قال ما ملخصه : " وقوله - تعالى - { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } فيه سؤال وهو أنه - تعالى - قال : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكيف الجمع بين الآية التى معنا وبين قوله { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } والجواب : أن المقصود من كل هذه الكلمات : بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه ، فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول : لا ارى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب نعوذ بالله منه . وهذا هو الجواب الصحيح " .
وقوله { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } أى لا يعطف عليهم ولا يرحمهم ولا يحسن إليهم ، وذلك كما يقول القائل لغيره : انظر إلي ، يريد : ارحمني واعطف علي .
ويقال : فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد من ذلك نفى الإحسان إليه وترك الاعتداد به ، فقد جرت العادة بأن من اعتد بإنسان وعطف عليه التفت إليه .
قالوا : فلهذا السبب صار المراد بعدم نظر الله - تعالى - إلى هؤلاء الخائنين عبارة عن ترك العطف عليهم والإحسان إليهم والرحمة بهم .
ولا يجوز أن يكون المراد من عدم النظر إليهم ، وعدم رؤيتهم ، لأنه - سبحانه - يراهم كما يرى غيرهم من خلقه .
وقوله - تعالى - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أى أنه - سبحانه - لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وأوزارهم بالمغفرة ، بل يعاقبهم عليها . أو أنه - سبحانه - لا يثنى عليهم كما يثنى على الصالحين من عباده ، بل يسخط عليهم وينتقم منهم جزاء غدرهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان النتيجة المترتبة على هذا الغضب منه عليهم ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أى ولهم عذاب مؤلم موجع بسبب ما ارتكبوه من آثام وسيئات .
فانت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلا بأنهم لاحظ لهم من نعيم الآخرة ، وأنهم ليسوا أهلا لرضا الله ورحمته وإحسانه ، وأنهم سينالون العذاب المؤلم الموجع بسبب ما قدمت أيديهم .
ومن ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة . . ( يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا ) . . فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس . . ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده ، أن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمنا قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة ! ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده - وهو عهدهم مع الناس - في الدنيا .
ونجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير . وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم ، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم . . وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس . . ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي . على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة .
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالاً للعهد ، وللحلف الذي بينهم ، وبين المسلمين ، وقريشٍ . والكلامُ استئناف قصد منه ذكر الخُلق الجامع لشتات مساوىء أهل الكتاب من اليهود ، دعا إليه قوله وَدّت طائفة من أهل الكتاب وما بعده .
وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة ( 40 ) : { أوفوا بعهدي } ، { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . { ماله في الآخرة من خلاق } [ البقرة : 102 ] . { ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزيكهم } [ البرة : 174 ] . فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا . وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق ، في مواضع ، لأنّ موسى عاهدهم على العمل به ، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار .
ومعنى { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } غَضَبُه عليهم إذ قد شاع نفي الكلام في الكناية عن الغضب ، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية ، ونفي النظر في الغَضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص . وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي .
وقوله : { ولا يزكيهم } أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم ، لأنّ من بلغ من رقّة الديانة إلى حدّ أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً ، فقد بلغ الغَاية القصوى في الجُرْأة على الله ، فكيف يُرجى له صلاح بعد ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى ولا يُنْميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيْرات .
وفي مجيء هذا الوعيد ، عقب الصلة ، وهي يشترون بعهد الله الآية ، إيذان بأنّ من شابههم في هذه الصفات فهو لاَحِقٌ بهم ، حتى ظنّ بعض السلف أنّ هذه الآية نزلت فيمن حلَف يميناً باطلة ، وكلّ يظنّ أنها نزلت فيما يَعرفه من قصةِ يَمين فاجرة ، ففي « البخاري » ، عن أبي وائِل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فأنزل الله تصديق ذلك : { إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم } الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال : « ما يحدثكم أبو عبد الرحمان » قلنا : كذا وكذا . قال : « فيّ أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي » فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينتك أو يمينه قلت : إذن يحلف فقال رسول الله : من حَلف على يمين صبر الحديث .
وفي « البخاري » ، عن عبد الله بن أبي أوفى : أنّ رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يُعْطَه ليُوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } الآية .
وفيه عن ابن عباس أنه قرأ هاته الآية في قصّة وجبت فيها يمين لِردّ دعوى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا}: عرَضا من الدنيا يسيرا، يعني رؤوس اليهود. {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة}: لا نصيب لهم في الآخرة.
{ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم}: بعد العرض والحساب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه باتباع محمد وتصديقه، والإقرار به، وما جاء به من عند الله وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي اؤتمنوا عليها، "ثمنا"، يعني عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنيا وحطامها.
{أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة، وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم.
{وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ}: ولا يكلمهم الله بما يسرّهم. "ولا ينظر إليهم": ولا يعطف عليهم بخير، مقتا من الله لهم كقول القائل لآخر: انظر إليّ نظر الله إليك، بمعنى: تعطف عليّ تعطف الله عليك بخير ورحمة.
{وَلا يُزَكّيهِمْ}: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ}: ولهم عذاب موجع.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، ومن عني بها؟
فقال بعضهم: نزلت في أحبار من أحبار اليهود.
وقال آخرون: بل نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْم له؛ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيها فاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِئ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ» فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألَكَ بَيّنَةً»؟ قلت: لا، فقال لليهوديّ: «احْلِفْ»! قلت: يا رسول الله إذَنْ يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله عزّ وجلّ: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً} الآية.
وقال آخرون: عن عامر: أن رجلاً أقام سلعته أوّل النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عزّ وجلّ: {إنّ الّذِي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً}...
عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود، كان يقول: كنا نرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
عهد الله: أمره ونهيه... والعهد والأيمان سواء، ألا ترى إلى قوله {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان} الآية؟ [النحل: 91] ويحتمل عهد الله ما قبلوا عن الله، وما ألزمهم الله، والأيمان ما حلفوا، والله أعلم... {ولا يكلمهم الله} يحتمل وجوها: أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم كقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} {سلام عليكم بما صبرتم} [الرعد: 23 ة 24] [وكقوله] {يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} الآية [النحل: 32] وقوله: {ولا يكلمهم} الملائكة على ما يكلم المؤمنين، أضاف ذلك إلى نفسه على ما ذكرنا في ما تقدم من إضافة النصرانية على إرادة أوليائه، فكذلك هذا، أو أن يكون الله جل وعلا كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم لأنهم رسله، فكان كقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} [الشورى: 51] صيره ببعث الرسل كأن قد كلمهم هو، فكذلك الأول...
ويحتمل أن يكون الله جل وعلا يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا، فلا يكلمهم كما كلم المؤمنين. ويحتمل لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنين: 108] كقوله: {ولا ينظر إليهم يوم القيامة}... {ولا يزكيهم}: أي لا يجعل لخيراتهم ثوابا، ويحتمل أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا، فقال: {ولا يزكيهم} أي لا يزكي أعمالهم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}: بقبول حجّة يحتجّون بها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما وصف ما اشتروه من عرض الدنيا بأنه ثمن قليل مع ما قرن به الوعيد لأمرين:
أحدهما -لأنه قليل في جنب ما يؤدي إليه من العقاب والتنكيل.
والثاني- هو أنه مع كونه قليلا، الإقدام فيه على اليمين مع نقض العهد عظيم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذين آثروا هواهم على عُقباهم، وقدَّموا مناهم على موافقة مولاهم، أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ فللاستمتاع بما اختاروا من العاجل خسروا في الدارين. بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظِّ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن، ولكنهم لا يدرون ما أصابهم، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يُخَلِّدُهم في العقوبة الأبدية...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قوله تعالى: {يَشْترونَ بِعَهْدِ اللهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قليلاً} يدل على أن المال لا يصير حلالاً له إذا قضى القاضي بحكم الظاهر...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{ولا يزكيهم} أي لا يثني عليهم بالجميل، ولا يطهرهم من الذنوب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية آيةُ وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته،...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: في سبب نزولها:
قال قوم: نزلَتْ في اليهود؛ كتبوا كتاباً وحَلفوا أنه من عند الله...
المسألة الثانية: قال علماؤنا: هذا دليلٌ على أنَّ حُكْمَ الحاكم لا يُحِلّ المالَ في الباطن بقضاءِ الظاهر، إذا عَلِمَ المحكوم له بُطلانَه.
وقد روَتْ أمُّ سلمة في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بَشَر، وأنتم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجَّتِه من بعض، فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه، فمن قضيْتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قِطْعةً من النار».
أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :
{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} الآية، فخص عهد الله بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكيد الحلف به، ولذلك قال إبراهيم: كانوا ينهوننا عن الحلف بالعهد، وليس ذلك إلا لغلظ اليمين به وخشية التقصير في الوفاء به،...
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها:
الأول: أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة.
الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم {يقولون على الله الكذب وهم يعلمون} [آل عمران: 75] ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك.
الثالث: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا، ومن الناس من قال: هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود...
ثم قال تعالى: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمنا قليلا، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب.
والخامس: في بيان وقوعهم في أشد العذاب، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم...
أما الأول: وهو قوله {لا خلاق لهم في الآخرة} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها، واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضا بعدم العفو فإنه تعالى قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]...
وأما الثاني: وهو قوله {ولا يكلمهم الله} ففيه سؤال، وهو أنه تعالى قال: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92، 93] وقال: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} [الأعراف: 6] فكيف الجمع بين هاتين الآيتين، وبين تلك الآية؟ قال القفال في الجواب: المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر، قال له لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه...
ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة...
وأما الثالث: وهو قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وتر ك الإحسان إليه، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى، فلهذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثم نظر، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم...
وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائيا لهم وذلك باطل...
وأما الرابع: وهو قوله {ولا يزكيهم} ففيه وجوه:...
والثاني: لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكي للشاهد مدح منه له. واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] وقال: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103] {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 21] وقد تكون بغير واسطة، أما في الدنيا فكقوله {التائبون العابدون} [التوبة: 112] وأما في الآخرة فكقوله {سلام قولا من رب رحيم} [يس: 58]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الأَيْمان: جمع يمين، وهو في الأصل: اسم لليد التي تقابل الشمال، ثم سمي الحلف والقسم يمينا لأن الحالف في العهد يضع يمينه في يمين من يعاهده عند الحلف لتأكيد العهد وتوثيقه، حتى إن اللفظ يطلق على العهد نفسه...
ولما كان الناكث للعهد لا ينكث إلا لمنفعة يجعلها بدلا منه عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة، وسمى العوض ثمنا قليلا مع العلم بأن بعض الناس لا ينكثون العهد في الأمور الكبيرة إلا إذا أوتوا عليه أجرا كبيرا وثمنا كثيرا، لأجل أن يبين للناس أن كل ما يؤخذ بدلا من عهد الله فهو قليل، لا سيما إذا أكد باليمين، لأن العهود إذا خزيت اختل أمر الدين؛ إذ الوفاء آيته البينة بل محوره الذي عليه مداره، وفسدت مصالح الدنيا إذ تبطل ثقة الناس بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وسلك النظام وأساس العمران، لأجل هذا كان الوعيد على نكث العهد ولو لأجل المنفعة أشد ما نطق به الكتاب وأغلظه...
. لم يكتف تعالى بحرمان بائعي العهد بالثمن من النعيم وبما أعد لهم من العذاب الأليم حتى بين مع ذلك أنهم يكونون في دركة من الغضب الإلهي لا ترجى لهم فيها رحمة ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة فعدم النظر والكلام كناية عن عدم الاعتداد ومنتهى الغضب الذي لا رجاء معه ولا أمل...
إن الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر. ولكن الله تعالى لم يتوعد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات، لأن مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرمت لأجلها تلك الجرائم فما بال كثير من الناس يدعون التدين ويتسمون بسمة الإسلام وهم لا يبالون بالعهود ولا يحفظون الأيمان ويرون ذلك صغيرا من حيث يكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لأنهم لم يتعودوها. الإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث في نفس. وقد عد تعالى أخص وصف لزعماء الكفر يبيح قتالهم كونهم لا وفاء لهم بالعهود إذ قال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة: 12]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم.. وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس.. ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي. على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالاً للعهد، وللحلف الذي بينهم، وبين المسلمين، وقريشٍ. والكلامُ استئناف قصد منه ذكر الخُلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، دعا إليه قوله وَدّت طائفة من أهل الكتاب وما بعده...
وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة (40): {أوفوا بعهدي}، {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} [البقرة: 41]. {ماله في الآخرة من خلاق} [البقرة: 102]. {ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم} [البرة: 174]. فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا...
ولا يقلعون عن آثامهم، لأنّ من بلغ من رقّة الديانة إلى حدّ أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً، فقد بلغ الغَاية القصوى في الجُرْأة على الله، فكيف يُرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا يُنْميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيْرات. وفي مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي يشترون بعهد الله الآية، إيذان بأنّ من شابههم في هذه الصفات فهو لاَحِقٌ بهم، حتى ظنّ بعض السلف أنّ هذه الآية نزلت فيمن حلَف يميناً باطلة...
هذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الأشخاص الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة، وكل من كان على هذا اللون في أي عصر، وفي أي دين من الأديان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ الحياة الاجتماعية، في كلّ مجالاتها الحيويّة، ترتكز على أساس المواثيق والعهود التي يفرضها الفرد على نفسه من خلال قناعاته ومرتكزاته وحاجاته، أو تفرضها المجتمعات على نفسها للآخرين، في نطاق الدول أو المؤسسات أو الجماعات... وليس لهذه المواثيق والعهود قيمةٌ في الوصول إلى توازن الحياة من خلالها، إلاَّ في نطاق الالتزام بها والوفاء بمقتضياتها. وقد أكّد اللّه على ذلك في هذه الآية باعتبارها عهداً للّه، فمن ينقض أيّ التزام في يمين أو عهد، فإنَّه ينقض عهد اللّه، وذلك من خلال ما أمر اللّه به من الوفاء بالعقود في قوله تعالى: [أوفوا بالعقود]... ونلاحظ اهتمام الإسلام الكبير بالعهد أنَّه في سورة براءة أعلن البراءة من المشركين كافة، واستثنى المعاهدين منهم، وذلك قوله تعالى: [إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثُمَّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم] (التوبة: 4) وقوله تعالى: [كيف يكون للمشركين عهدٌ عند اللّه وعند رسوله إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] (التوبة: 7) ما يوحي بأنَّ قضية الوفاء بالعهد في الإسلام لا تنظر إلى طبيعة من عاهدته من حيث عقيدته أو التزامه أو سلوكه، وذلك هو قوله تعالى: [لا خلاق لهم]، بل تنظر إلى طبيعة التزام المسلم به كخلق إسلامي أصيل يفرض عليه مسؤولية لا بُدَّ له من القيام بها والوقوف عندها؛ ما يعني أنَّ معنى أن تكون مسلماً هو أن تلتزم بعهدك لأيّ إنسان كان...