مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (77)

{ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } .

اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول : أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم { يقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 75 ] ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه ، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا ، ومن الناس من قال : هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة ، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة ، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفت الروايات في سبب النزول ، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ، ومنهم من خصها بغيرهم .

أما الأول ففيه وجهان الأول : قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] الثاني : أنها نزلت في ادعائهم أنه { ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] كتبوا بأيديهم كتابا في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن .

وأما الاحتمال الثاني : ففيه وجوه الأول : أنها نزلت في الأشعث بن قيس ، وخصم له في أرض ، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال للرجل : « أقم بينتك » فقال الرجل : ليس لي بينة فقال للأشعث « فعليك اليمين » فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق ، وهو قول ابن جريج الثاني : قال مجاهد : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته الثالث : نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض ، فتوجه اليمين على امرىء القيس ، فقال : أنظرني إلى الغد ، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض ، والأقرب الحمل على الكل .

فقوله : { إن الذين يشترون بعهد الله } يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه ، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به .

قال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن } [ التوبة : 75 ] الآية وقال : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } [ الإسراء : 34 ] وقال : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] وقال : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء ، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر ، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد ، أو وعيد ، أو إنكار ، أو إثبات .

ثم قال تعالى : { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمنا قليلا ، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس : في بيان وقوعهم في أشد العذاب ، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم .

فالأول : وهو قوله { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة .

وأما الثلاثة الباقية : وهي قوله { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم } فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز .

وأما الخامس : وهو قوله { ولهم عذاب أليم } فهو إشارة إلى العقاب ، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة :

أما الأول : وهو قوله { لا خلاق لهم في الآخرة } فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة ، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضا بعدم العفو فإنه تعالى قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] .

وأما الثاني : وهو قوله { ولا يكلمهم الله } ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى قال : { فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ الحجر : 92 ، 93 ] وقال : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ، وبين تلك الآية ؟ قال القفال في الجواب : المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا ، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر ، قال له لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه . وهذا هو الجواب الصحيح ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه ، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والمعتد هو الجواب الأول .

وأما الثالث : وهو قوله تعالى : { ولا ينظر إليهم } فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان ، يقال فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه ، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى ، فلهذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية ، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام ، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسما ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائيا لهم وذلك باطل .

وأما الرابع : وهو قوله { ولا يزكيهم } ففيه وجوه الأول : أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني : لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له .

واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 23 ، 24 ] وقال : { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ فصلت : 21 ] وقد تكون بغير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] وأما في الآخرة فكقوله { سلام قولا من رب رحيم } [ يس : 58 ] .

وأما الخامس : وهو قوله { ولهم عذاب أليم } فاعلم أنه تعالى لما بين حرمانهم من الثواب بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم .