غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَـٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (77)

72

قال : { إن الذين يشترون } الآية . واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة ، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه . قال عكرمة : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود . كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم .

وقال الكلبي : إن ناساً من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة ، فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت ؟ قال : لا . قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله . قال كعب : لقد حرمكم الله خيراً كثيراً . لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم . فقالوا : فإنه شبه لنا فرويداً حتى نلقاه . فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا : لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفاً للذي عندنا . وأخرجوا الذين كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت . وعن الأشعث بن قيس :

" خاصمت رجلاً في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شاهداك أو يمينه . فقلت : إذاً يحلف ولا يبالي . فقال صلى الله عليه وسلم : " من حلف عليّ يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان " " ونزلت الآية على وفقه . وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه . ومعنى يشترون يستبدلون ، وعهود الله مواثيقه ، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه . والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما . ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء فقوله : { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها . وقوله : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب . وقوله : { ولهم عذاب أليم } إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب الأهوال . قال المحققون ومنهم القفال : المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول : لا أكلمك ولا أرى وجهك . وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل . قال في الكشاف : لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم . تقول : فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به . وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر . ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر .

قلت : لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر ، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة . وفي التفسير الكبير : لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف " إلى " ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائياً وذلك باطل . قلت : يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة }[ القيامة : 22 ، 23 ] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعنى الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضاً وقتئذٍ نفي رؤية لا يرونه حينئذ .