ولهذا بين كذبهم في قوله : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : برهان ويقين مني { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أي : منَّ علي برسالته ووحيه ، أي : أفأتابعكم على ما أنتم عليه ، وما تدعونني إليه ؟ .
{ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي : غير خسار وتباب ، وضرر .
فانظر كيف قابل هؤلاء السفهاء الدعوة إلى الحق بالتصميم على الباطل ، ولكن صالحا - عليه السلام - لم ييأس بل يرد عليهم بأسلوب حكيم فيقول :
{ قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } .
أى قال صالح - عليه السلام - لقومه : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى .
{ وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أى : وأعطانى من عنده لا من عند غيره رحمة عظيمة حيث اختارنى لحمل رسالته . وتبليغ دعوته .
وجملة { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } جواب الشرط وهو قوله { إِن كُنتُ على بَيِّنَةً } .
أى : إذا كان الله - تعالى - قد منحنى كل هذه النعم ، وأمرنى بأن أبلغكم دعوته فمن ذا الذى يجيرنى ويعصمنى من غضبه ، إذا أنا خالفت أمره أو قصرت فى تبليغ دعوته ، احتفاظا برجائكم فى ، ومسايرة لكم فى باطلكم ؟
لا ، إننى سأستمر فى تبليغ ما أرسلت به إليكم ، ولن يمنعنى عن ذلك ترغيبكم أو ترهيبكم .
وقوله { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } تصريح منه بأن ما عليه هو الحق الذى لا يقبل الشك أو الريب ، وأن مخالفته توصل إلى الهلاك والخسران .
والتخسير : مصدر خسر ، يقال خسر فلان فلانا إذا نسبه إلى الخسران : أى : فما تزويدوننى بطاعتكم ومعصية ربى غير الوقوع فى الخسران ، وغير التعرض لعذاب الله وسخطه وحاشاى أن أخالف أمر ربى إرضاء لكم .
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه صالح - عليه السلام - من إيمان عميق بالله - تعالى - ومن ثبات على دعوته ومن حرص عليه طاعته - سبحانه
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . .
يا قوم : ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق ؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها . فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته ، احتفاظا برجائكم في ؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله ؟ كلا :
( فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . .
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة . . غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة . وهي خسارة بعد خسارة . ولا شيء إلا التخسير ! والتثقيل والتشديد !
جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة { قال } وهو الشّأن في حكاية المحاورات كما تقدّم غير مرة .
وابتداء الجواب بالنّداء لقصد التّنبيه إلى ما سيقوله اهتماماً بشأنه .
وخاطبهم بوصف القوميّة له للغرض الذي تقدّم في قصة نوح .
والكلام في قوله : { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة } كالكلام على نظيرها في قصة نوح .
وإنّما يتّجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم { منه } على { رحمة } هنا ، وتأخير { من عنده } [ هود : 28 ] عن { رحمة } [ هود : 28 ] في قصة نوح السابقة .
فالجواب لأنّ ذلك مع ما فيه من التّفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل ، هو أيضاً أسعد بالبيان في وضوح الدّلالة ودفع اللبس . فلمّا كان مجرور ( من ) الابتدائية ظرفاً وهو ( عند ) كان صريحاً في وصف الرّحمة بصفة تدلّ على الاعتناء الربّانيّ بها وبمَن أوتيَهَا . ولمّا كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل { آتاني } ليكون تقييدُ الإيتاء بأنّه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلاً لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه ، فتعيّن أن يكون المراد إيتاءً خاصاً ، ولو أوقع { منه } عقب { رحمة } لتوهّم السامع أنّ ذلك عوض عن الإضافة ، أي عن أن يقال : وآتاني رحمته ، كقوله : { ولنجعله آيةً للنّاس ورحمةً منا } [ مريم : 21 ] أي ورحمتنا لهم ، أي لنعظَهم ونرحَمَهم .
وجملة { فمن ينصرني من الله } جواب الشرط وهو { إن كنت على بيّنة } .
والمعنى إلزام وجدل ، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبّخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأنّي على بيّنة من ربّي ، أفترون أنّي أعدل عن يقيني إلى شكّكم ، وكيف تتوقّعون منّي ذلك وأنتم تعلمون أنّ يقيني بذلك يجعلني خائفاً من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني .
والكلام على قوله : { مَنْ ينصرني من الله إن عصيته } كالكلام على قوله : { من ينصرني من الله إن طردتهم } [ هود : 30 ] في قصة نوح .
وفُرع على الاستفهام الإنكاري جملة : { فما تزيدونني غيرَ تخسير } أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إيّاي إلا سعي في خسراني .
والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجوداً لأنّ ذلك زيادة في أحوال الإنسان ، أي فما يحدث لي إن اتّبعتُكم وعصيتُ الله إلاّ الخسرانُ ، كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام : { فلم يزدهم دعائي إلاّ فِرارا } [ نوح : 6 ] ، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلمّا كرّرت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففرُّوا ، وليس المعنى أنّهم كانوا يفرّون فزادوا في الفرار لأنّه لو كان كذلك لقيل هنالك : فلم يزدهم دعائي إلاّ من فرار ، ولقيل هنا : فما تزيدونني إلاّ من تخسير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.