ثم بشره - سبحانه - ببشارات أخرى فقال : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ . بِأَيِّكُمُ المفتون . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } .
والفاء فى قوله : { فَسَتُبْصِرُ . . . } للتفريع على ما تقدم من قوله : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }
والفعل " تبصر ويبصرون " من الإبصار الذي هو الرؤية بالعينين ، وقيل : بمعنى العلم . . والسين في { فَسَتُبْصِرُ . . . } للتأكيد .
والباء في قوله { بِأَيِّكُمُ . . } يرى بعضهم أنها بمعنى في . والمفتون : اسم مفعول ، وهو الذي أصابته فتنة . أدت إلى جنونه ، والعرب كانوا يقولون للمجنون : فتنته الجن . أو هو الذي اضطرب أمره واختل تكوينه وضعف تفكيره . كأولئك المشركين الذين قالوا في النبى صلى الله عليه وسلم أقوالا لا يقولها عاقل . .
أي : لقد ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - أنك بعيد عما اتهمك به الكافرون ، وأن لك عندنا المنزلة التي ليس بعدها منزلة . . وما دام الأمر كذلك فسترى وستعلم ، وسيرى وسيلعم هؤلاء المشركون ، في أي فريق منكم الإِصابة بالجنون ؟ أفي فريق المؤمنين أم بفريق الكافرين . .
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه : قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } قال ابن عباس : فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل ، وقيل في الدنيا بظهور عاقبة أمرك . .
{ بِأَيِّكُمُ المفتون } الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون ، فزيدت الباء كزيادتها في نحو : بحسبك درهم . .
وقيل : الباء بمعنى " في " الظرفية ، كقولك : زيد بالبصرة . أي : فيها . والمعنى : في أي فرقة منكم المفتون .
وقيل : المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور . أي ، بأيكم الفتون .
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم ؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :
( فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . .
والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال . أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقته . وكلا المدلولين قريب من قريب . . وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه . . أيا كان مدلول الجنون الذي رموه به . والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل . فالواقع يكذب هذا القول . إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع - كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانا هو الذي يمده ببديع القول ! - وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم .
وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه . ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه ؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه . ويطمئنه إلى أن ربه ( هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) . . وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه . وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء !
و ( أي ) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، ويظهر أن مدلول ( أي ) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جَعْلي ، فهذا مدلول ( أيّ ) في جميع مواقعه ، وله مواقع كثيرة في الكلام ، فقد يشرب ( أيّ ) معنى الموصول ، ومعنى الشرط ، ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل ، ومعنى المعرّف ب ( ال ) إذا وُصل بندائه . وهو في جميع ذلك يفيد شيئاً متميزاً عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه ، فقوله تعالى : { بأيكم المفتون } معناه : أيُّ رجل ، أو أيُّ فريق منكم المفتون ، ف ( أي ) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل ( تُبصر ويبصرون ) أو متعلق به تعلقَ المجرور .
وقد تقدم استعمال ( أيّ ) في الاستفهام عند قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة { الأعراف : 185 ] .
والمفتون } : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة ، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة ( يقولون للمجنون : فَتَنَتْهُ الجن ) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلاً ، بإيثار هذا اللفظ ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجَّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين .
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة .
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله ، والأصل : أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى : في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون ، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضاً بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلاً معروفاً بين العقلاء مذكوراً برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل { المفتون } في الآية وصفاً ادعائياً على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :
إذا تَرحَّلْت عن قوم وقد قدروا *** أن لا تفارقهم فالرَّاحلون هُمُو
ويجوز أن يكون { المفتون } مصدراً على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجَلْد ؛ والميْسور لليسر ، والمعسورِ لضده ، وفي المثل « خُذ من ميْسوره ودَعْ معسوره » .
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على { المفتون } وهو مبتدأ .
يُضمن فعل ( تُبصر ويبصرون ) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين . والمعنى : فستعلم يقيناً ويعلمون يقيناً بأيّكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ( يبصر ويُبصرون ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.