وقوله : { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } أي : من حجة وبرهان على صحة مذهبكم ، وكل أمر ما أنزل الله به من سلطان ، فهو باطل فاسد ، لا يتخذ دينا ، وهم -في أنفسهم- ليسوا بمتبعين لبرهان ، يتيقنون به ما ذهبوا إليه ، وإنما دلهم على قولهم ، الظن الفاسد ، والجهل الكاسد ، وما تهواه أنفسهم من الشرك ، والبدع الموافقة لأهويتهم ، والحال أنه لا موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن ، من فقد العلم والهدى ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } أي : الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة ، وجميع المطالب التي يحتاج إليها العباد ، فكلها قد بينها الله أكمل بيان وأوضحه ، وأدله على المقصود ، وأقام عليه من الأدلة والبراهين ، ما يوجب لهم ولغيرهم اتباعه ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة من بعد البيان والبرهان ، وإذا كان ما هم عليه ، غايته اتباع الظن ، ونهايته الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، فالبقاء على هذه الحال ، من أسفه السفه ، وأظلم الظلم ، ومع ذلك يتمنون الأماني ، ويغترون بأنفسهم .
ثم بين لهم - سبحانه - وجه الحق فى هذه الأصنام فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ . . } . أى : ما هذه الأصنام التى عبدتموها من دون الله ، أو توهمتم أنها تشفع لكم عنده - تعالى - . ما هى إلا أسماء محضة ، ليس فيها شىء أصلا من صفات الألوهية ، وأنتم وآباؤكم سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، دون أن يكون معكم على هذه التسمية شىء من الحجة أو الدليل أو البرهان . . .
فالمضير " هى " يعود إلى اللات والعزى ومناة وغيرها نم الآلهة الباطلة .
والمراد بقوله : { أَسْمَآءٌ } : أنها ليس لها من الألوهية التى أثبتوها لها سوى اسمها ، وأما معناها وحقيقتها فهى أبعد ما تكون عن ذلك . . .
وجملة " سميتموها " صفة للأسماء ، والهاء هى المفعول الثانى ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : إن هى إلا أسماء سميتموها الأصنام ، أى : سميتم بها الأصنام .
والمراد بالسلطان : الحجة والدليل ، والمراد بالإنزال : الإخبار بأنها آلهة و " من " مزيدة لتوكيد عدم الإنزال على سبيل القطع والبت .
أى : ما أخبر الله - تعالى - عنها بأنها آلهة ، بأى لون من ألوان الإخبار ، ولا توجد حجة من الحجج حتى ولو كانت واهية تشير إلى ألوهيتها .
ثم يهمل - سبحانه - خطابهم بعد ذلك ، ويذرهم فى أوهامهم يعمهون ، ويلتفت بالحديث عنهم حتى كأنهم لا وجود لهم ، فيقول : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس . . } .
أى : ما يتبع هؤلاء الجاهلون فى عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة ، إلا الظنون الكاذبة ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء ، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر . .
فالمراد بالظن هنا : الظن الباطل الذى يقوم على الاعتقاد الفاسد ، كما فى قوله - تعالى - : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } والتعريف فى قوله - سبحانه - : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } عوض عن المضاف إليه . و { مَا } موصولة والعائد محذوف . أى : والذى تهواه أنفسهم التى استحوذ عليها الشيطان . .
وجملة : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } حالية من فاعل " يتبعون " ، وجىء بها لزيادة التعجب من حالهم .
أى : هم ما يتبعون إلا الظنون وما تهواه أنفسهم المحجوبة عن الحق ، والحال أنه قد جاء إليهم ، ووصل إلى مسامعهم من ربهم ، ما يهديهم إلى الصواب لو كانوا يعقلون .
وأكد - سبحانه - هذه الجملة بلام القسم وقد ، لتأكد الخبر ، ولزيادة التعجب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الغرابة .
والتعبير بقوله : { جَآءَهُم } يشعر بأن الحق قد وصل إليهم بدون عناء منهم ، ولكنهم مع ذلك رفضوه وأعرضوا عنه .
والتعريف فى لفظ " الهدى " يدل على كماله وسموه . أى . ولقد جاءهم من ربهم الهدى الكامل الذى ينتهى بمن يتبعه إلى الفوز والسعادة .
والمراد به : ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من قرآن كريم ومن سنة مطهرة .
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع . ولا حجة فيها ولا دليل :
( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) !
هذه الأسماء . اللات . العزى . مناة . . وغيرها . وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة . وتسمية الملائكة إناثا . وتسمية الإناث بنات الله . . . كلها أسماء لا مدلول لها ، ولا حقيقة وراءها . ولم يجعل الله لكم حجة فيها . وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له . لأنه لا حقيقة له . وللحقيقة ثقل . وللحقيقة قوة . وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها . ضعيفة لا قوة لها . مهينة لا سلطان فيها .
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم ، ويترك خطابهم ، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم ، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) . . فلا حجة ولا علم ولا يقين . إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة ، والهوى يستمدون منه الدليل . والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى ؛ ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض . . وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة : ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . فانقطع العذر وبطل التعلل !
ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر ، ولن يجدي هدى ؛ لأن العلة هنا ليست خفاء الحق ، ولا ضعف الدليل . إنما هي الهوى الجامح الذي يريد ، ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد ! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى ، ولا يقنعها الدليل !
ثم قال تعالى : { إن هي إلا أسماء } يعني أن هذه الأوصاف من أنها إناث وأنها تعبد آلهة ونحو هذا إلا أسماء ، أي تسميات اخترعتموها { أنتم وآباؤكم } لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهاناً ولا حجة ، وقرأ عيسى بن عمر : «سلُطان » بضم اللام ، وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش «إن تتبعون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضاً والجمهور : «يتبعون » بالياء على الحكاية عن الغائب و { الظن } : ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان وهوى الأنفس : هو إرادتها الملذة لها وإنما تجد هوى النفس أبداً فيترك الأفضل ، لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع .
وقوله تعالى : { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم ، لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا { الظن وما تهوى الأنفس } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.